صيدلية الجوع  

عندما نطرح اصطلاح “صيدلية الجوع”، فإن تداعيات كثيرة تروح وتجيء في الذهن، هل يفهم الجميع معنى الجوع بمعنى واحد أم تراهم يختلفون في تحديده أو تعريفه؟

وهل نحن نحتاج إلى العودة إلى عصر الشح والإمكانات البسيطة؟

وكيف يرتبط مفهوم الجوع بإطار الصحة العامة ونمط الحياة؟

يُعرّف الجوع على أنّه شعور ناتج عن الحاجة إلى تناول الطعام.

وفي ظل هذا المفهوم فإن الغذاء مرتبط بالنقيضين، الجوع والشبع، وغلب الجوع الشبع، إذ اتفقت عليه معظم الأمم على مر التاريخ، وتفنن العباد والزهاد وأهل الأدب في ذكر محاسنه في تهذيب النفس والاقتراب من صفاء الروح وتقوية الجسد، فيما حاز الشبع على كل السلبيات عند معظم أهل التأمل والإبداع.

العادات الغذائية عند الأفراد سلوك بطبعه الموروث الذي يتشكل من الدين والثقافة والتقاليد وحتى الخرافات والأساطير ومستوى التعليم والحالة الاجتماعية، وسنجد من العادات ما هو مفيد، ومنها ما هو ضار.

يعد الجوع وسيلة ناجعة للشفاء من أمراض وعلل كثيرة، وخاصة تلك المتعلقة بسوء إطراح بعض الفضلات والسموم الناتجة عن مواد غذائية معينة.

المتأمل في سلوك أيام زمان يجد أدبيات الأكل أو الدعوة إليه، علامة من علامات التحضر ورقي الحس، آداب تعلم الناس كيف يأكلون ومتى يأكلون، فإن في تلاقي أساليب التهذيب في الأكل ما ارتقى بهذه الرغبة في طلب الطعام.

الشائع في جيل الآباء والأجداد السؤال بعفوية: هل أنت جائع؟ وغالباً تكون الإجابة عفوية وصادقة.

ولو تأملنا في المقابل في الوقت الحاضر، لوجدنا كثيراً من العادات الخاطئة والممارسات السيئة “تغذوياً وصحياً” نأكل كثيراً دون خشية الامتلاء وما يترتب عليه من أمراض.

الدراسات تؤكد أن تعويد المعدة على الجوع فيه فوائد وفوائد، وفي كل الأحوال لابد من ممارسته لصحة أفضل وحيوية أكثر (بإذن الله).

تقليل الأكل اليومي والشعور بالجوع هذه هي المعادلة ببساطة، ولكن ومع هذه الصورة العامة فإن هناك جوانب ثانوية قد تؤثر على حالة الإنسان النفسية والاجتماعية تقوده للامتناع عن الأكل في المناسبات وتلبية الدعوات، وعلى العموم إن الجسم قد يتأقلم معها مع مرور الوقت مما يجعل تأثيرها معدوماً تماماً.

رغم الإجهاد الذي يتسبب فيه الجوع، إلّا أنّ له فوائد صحيّة جمّة كالتخلص من بلّورات الأحماض السامة التي تتراكم على مر السنين بسبب الإفراط في الأطعمة الحامضية والسامة، وعلاج الأمراض المستعصية، والقضاء على الملوثات والفيروسات.

إن الإفراط في الطعام – أياً كان نوعه – يؤدي لوقوع صاحبه في مشكلات لا تحمد عقباها.

فعلى كل فرد منا أن يحفظ نفسه عن الإفراط في الشبع، وتوالي الأكل بين الوجبات دون حاجة.

إن الغاية المقصودة من الغذاء، هي – على وجه التحديد – حفظ قدرة الجسم وحيويته، وتحقيق نموه، ووقايته من الأمراض، وهذه الغاية لا تتحقق إلا بتحقيق مبدأ الاعتدال، وهذا ما بينه الرسول الأعظم محمد (ص) في قوله: “نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع”.

معرفة حاجة الإنسان للغذاء الذي يقيه من الأمراض ويجعله يعبر رحلة الحياة بأقل قدر من العلل والأمراض.

نقف على أبواب شهر رمضان المبارك، سيظهر الإبداع والتفنن في موائد الإفطار، تضم من الأطباق كل ما لذ وطاب، موائد وأشكال وأنواع فيها تمتلئ النفوس طمأنينة وفيها تفتح الشهية ويسيل اللعاب، عاش الناس يتفاخرون بكثرة مآكلهم ومشاربهم وأصبحوا يعرفون أنواعاً كثيرة من ألوان الغذاء، اهتموا وتفننوا بملء بطونهم، فما زاد إلى حاويات القمامة والمزابل وسلة المهملات، ذلك الثراء والرفاهية ومظاهر البذخ والإسراف في ألوان الطعام، هي الهمجية القاسية التي تعيشها شعوب كثيرة، جلبت لها المحظورات والأسقام.

نجد أن كثيراً من الناس تزداد أوزانهم خلال الشهر الفضيل، حيث يلتهم الصائم ضعف الكمية التي يتناولها، وذلك لتعويض ما فاته خلال النهار، لذلك ليس غريباً أن تنتشر كثير من الأمراض.

وعلى هذا نستطيع أن نقيس مدى الإساءة التي تلحق أجسادنا عندما نثقل عليها بأغذية متعددة، ولكن هذه الأجسام لا تغفر الإساءة قط، فهي تجمع رواسب تلك الأغذية على شكل سموم تسبب لنا – فيما بعد – متاعب صحية لا حصر لها.

إن ضعف الجسم ووهنه لا يتأتيان من قلة التغذية أو الجوع، بل من كثرة الطعام وتنوعه والإغراق فيه، يأتي على حساب نصيب الماء والتنفس ولكل ثلث.

زمان كانت القاعدة “ثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه”، واليوم استبدلت بثلاثة اثلاث لطعامه وزادها ثلثاً لشرابه، وأما النفس فطريقه إلى الرئة وليس المعدة كما يعتقد، وهذا كله أودى بنا إلى أمراض صنعناها تدريجياً بإرادتنا الكاملة.

إن إحدى مصائبنا الغذائية التي تجعلنا في أحضان “المعمعة” الدوائية أننا لا نجوع، لا نجوع بالقدر الكافي، ولا نتيح للجوع أن يتمكن منا للدرجة التي تساعدنا على إصلاح أجسادنا، أننا لا نفعل ذلك، فلو أننا صمنا صياماً حقيقياً، الصيام الواجب في رمضان، لأضفنا مكاسب صحية، إنقاص الوزن، وتخليص الجسم من السموم، مع كسب رضا الله عز وجل.

في رمضان تكون فرصة لاتباع نهجين أساسيين هما: اختيار أطعمة صحية قليلة الكمية، واستمرار الجوع، بل وصناعته عبر أنشطة حياتية ورياضية مدروسة.

في المقابل يعمد بعض الناس للأكل بكميات كبيرة في الإفطار والسحور ثم ينام من الفجر حتى المغرب فلم يذق طعم الجوع ولم يعط جسمه فرصة للتخلص من السموم المتراكمة، فجسمه لم يبذل أي مجهود يخلصه من الطاقة الزائدة عن حاجته، وهؤلاء الأشخاص لا يحققوا الفائدة العظمى من الصيام.

الجوع هدف أساسي للصيام ليحقق آثاره الإيجابية سواء الصحية أو الاجتماعية، فالجوع ليس شعوراً أو إحساساً بالحرمان من الأكل فقط، بل يحدث خلفه كثير من التغيرات الإيجابية للجسم، ففي الوقت الذي قد يعاني الشخص من الجوع، يجري في خلاياه عمليات تنظيف هائلة للمواد المترسبة والسامة، ووقف نمو الخلايا السرطانية، فتموت تلك الخلايا دون أن يشعر بذلك كله، وهكذا الأمر في كثير من المشكلات الصحية التي يقضي عليها الصيام فتحدث وتختفي دون علم الشخص المصاب ؛ ولهذا يتوجه كثير من العلماء ومراكز العلاج في العالم لاستخدام الصيام المتقطع لعلاج كثير من الحالات، ويطبق بطرق مختلفة تختلف حسب المدة ونوع الصيام فالبعض يصوّم مرضاه عن كل شيء إلا الماء، وبعضهم يصوّم مرضاه لمدة ست ساعات فقط في اليوم ويكررها لعدة أيام.

• دكتور جايسون فانغ – هو طبيب كندي متخصص في أمراض الكُلى، له شهرة عالمية في معالجة مرضى السكري – في دراسة عن تأثير الصيام على الجسم، وجد أن الصوم يرفع الطاقة ويعمل على حرق الدهون، وينشط هرمون النمو ليحافظ على العضلات أثناء حرق الدهون، ويرفع هرمون الأدرينالين لزيادة الطاقة التي يحتاجها الجسم، إذن الصيام يخفض الكربوهيدرات، بل هو أيضاً يخفض البروتين والدهون، وهذا سيؤدي إلى خفض الانسولين، وحرق كل السكر ويخرجه من الدم، بل يخرجه من الجسم كله، وهذا هو الخيار المثالي لعلاج مرضى السكري النوع الثاني.

نجد أن الكثير ممن يمارسون عادة الجوع، إنهم يحذفون أو يقننون الوجبات، ويستهلكون من السعرات الشيء القليل جداً، ويأكلون من الطعام الأنواع المتزنة، ويمارسون النشاط العضلي، ويفضلون العمل بمعدة فارغة، وهذه وصفة تساعد الجسم على التركيز على تنقية نفسه والرجوع إلى حالة من التوازن، بدلاً من التركيز على هضم الغذاء.

أعطى الجوع فاعلية عظمى في مداوة أمراض مختلفة، وقد يفوق الادوية بمرات عديدة، دون أن يكون له تأثير جانبي ضار على الجسم.

أصبح الجوع وسيلة لعلاج الكثير من الأمراض، ومعروف طبياً أن جسم الإنسان يتأقلم مع الظروف المختلفة التي تطرأ عليه كنقص الماء والغذاء فحينما يواجه الجسم نقصاً في الغذاء فإنه يعيش على ما ادخر من مواد، وحينما يضطر الجسم إلى حل أنسجته الداخلية بسبب الجوع فإنه يبدأ حسب أهميتها بما ادخره من سكريات ثم الدهون ثم بالبروتينات.

نحن لا نجوع، والأسوأ أننا دائمو الشبع، بل أزعُم أننا نأكل كثيراً لأننا تعودنا على هذا النمط.

هل حدث لدينا انقلاب غذائي كبير تتجاذب أطرافه معطيات الحياة؟

يوصف الجوع لشفاء المرضى، والشبع يجرنا إلى ما لا تحمد عقباه!!

تبدَّل حال مجتمعنا من قصة الجوع بكل تفاصيلها المأساوية إلى واقع الثراء الغذائي، حيث أصبح الناس يُنفقون المال لإصلاح الخلل في أجسامهم من فرط تناول الغذاء.

تناولك للطعام وأنت تشعر بجوع بالقدر المعقول، يجعل لديك الإرادة في اختيار نوعيات الأطعمة وتناولها بالكمية المسموحة لك، فإننا بذلك نصنع من عادات الغذاء ما يغنيك عن الدواء، نسأل الله للجميع الاستغناء عنه.

لقد عرفنا طريقنا إلى تلك الغاية: “كُلْ قليلاً تَعِش طويلاً.. وصُمْ تَعِش أطول بإذن الله”.

منصور الصلبوخ – اختصاصي تغذية وملوثات.


error: المحتوي محمي