أثر أزمة الفيروس على التجارة الإلكترونية

في ظل الأزمة الراهنة والانتشار الواسع للفيروس المستجد، فإنه لم يعد من الصعب إدراك حجم الأضرار الاقتصادية التي سيخلفها الفيروس على مستوى العالم، وهذا الأمر إن استمر لفترة طويلة فسيكون له تأثير سلبي بعيد المدى على الكثير من الأعمال التجارية بمختلف أحجامها، ولهذا فإننا نرى حالة من الترقب الحذر بالنسبة للجهات التجارية في محاولة للخروج بأقل الأضرار الممكنة، ولكن؛ هل يمكن أن يكون لهذه الأزمة آثار إيجابية على التجارة الإلكترونية؟

إن عدد معاملات التجارة الإلكترونية ليس بمستوى واحد في جميع دول العالم؛ بل إن هناك تفاوتاً كبيراً في هذا المجال من بلد لآخر، ولو خصصنا الحديث حول التجارة الإلكترونية في المملكة العربية السعودية فيمكن أن أقول إنه وحسب القراءات السريعة فإن لهذه الأزمة أثراً كبيراً في تنشيط التجارة الإلكترونية في المملكة.

لنتحدث قليلاً عن وضع التجارة الإلكترونية ما قبل الأزمة؛ فبالرغم من تزايد الإقبال على عمليات التجارة الإلكترونية من قبل المستهلكين والتجار إلا أن النسبة الأكبر من العمليات ما زالت تتم بشكل تقليدي، ووفقاً لموقع رؤية المملكة 2030 فإن قطاع التجزئة والذي يعد أحد أكبر القطاعات في السوق، ما زالت تسيطر عليه أنماط التجارة التقليدية بنسبة 50% مقابل 20% في بعض دول مجلس التعاون الخليجي.

لا تزال نسبة الإقبال على عمليات الشراء الإلكتروني منخفضة مقارنة ببعض الدول الأخرى في المنطقة، ولكن ومن وجهة نظري أن اللوم لا يلقى على عاتق المستهلك بالدرجة الأولى، وإنما على الجهات التجارية التي لم تتحرك حتى اليوم وتتخذ قرار التحول إلى التجارة الإلكترونية.

أستغرب بشدة عندما أرى بعض الجهات التجارية الكبيرة والمتوسطة وهي لم تتخذ خطوات تذكر في هذا المجال وما زالت تفضل العمل بالطرق التقليدية فقط، ولعل استقرار السوق لتلك الجهات في الفترة السابقة يجعلها لا تفكر في الأمر ظناً منها أن لا جدوى كبيرة منه أو لعدم رغبتها تحمل الأعباء المالية الخاصة بعملية التحول الرقمي، ولكن هل هذا الاستقرار سيكون مستمراً؟

وجدنا الكثير من الأعمال التجارية المبتكرة والتي اعتمدت على نمط التجارة الحديث وابتدأت نشاطها إلكترونيا سواء بشكل كامل أو جزئي واستطاعت المنافسة إلى أن استحوذت على جزء ضخم من السوق الذي تعمل فيه، فلا ينكر أحد أن أوبر مثلاً قد أثرت على سوق سيارات الأجرة التقليدية بشكل لا يستهان به في الكثير من دول العالم وأصبحت قوة اقتصادية كبيرة، وهذا دليل واضح على أن الأنشطة التقليدية قد لا تصمد أمام الأفكار التجارية المبتكرة والتي تعتمد على شبكة الإنترنت في أعمالها، وأن ظهور منافس يعمل بشكل مبتكر قد يسحب البساط من تحت تلك الجهات التي كانت تعتقد أن منافستها والتفوق عليها هو أمر في غاية الصعوبة بالنسبة للاعبين الصغار الذين يدخلون السوق.

إذا انتقلنا بحديثنا ناحية المستهلك فنجد أن هناك إقبالاً جيداً على الشراء الإلكتروني، ففي دراسة توجه قطاعات الأعمال للتجارة الإلكترونية والتي نشرتها غرفة جدة في أغسطس 2019، اتضح أن 90% من المشاركين في الدراسة كانت لهم تجارب شرائية عبر المتاجر الإلكترونية، وبالطبع فإن هذه النسبة كبيرة ولا اعتقد أنه بالإمكان تعميمها على المجتمع، حيث إن حجم العينة هو 311 مشاركاً فقط؛ ولكنها على أقل تقدير يمكن أن تعطينا مؤشراً حول مدى الإقبال على التعاملات الإلكترونية، خاصة أن 24.8% من المشاركين كانوا قد اشتروا منتجات ملموسة عبر الإنترنت وهنا نشير إلى قطاع التجزئة الذي تحدثنا عنه سابقاً، وبذلك نعود مرة أخرى للقول بأن اللوم الأكبر يوجه للجهات التجارية وليس المستهلك.

بعد النقاط المختصرة التي تحدثت عنها بالأعلى، أود أن أناقش بشكل مختصر أثر أزمة الجائحة على التجارة الإلكترونية وكيف يمكن أن يكون لها تأثير على هذا النمط الحديث من التجارة.

لعلنا وقبل التحدث مباشرة عن أثر الأزمة على الأعمال التجارية، علينا أولاً أن ننظر لأثرها على القرارات الحكومية في المملكة ومختلف دول العالم، فالخطوات السريعة التي اتخذتها حكومة المملكة بإيقاف العمل في المدارس والجامعات والانتقال مباشرة إلى استخدام التقنية عبر منظومة التعليم الموحدة؛ وكذلك حث الشركات للاعتماد على العمل عن بعد قدر الإمكان هو خير دليل على التأثير الإيجابي للأزمة في استخدام التقنية.

ولكن قد تقول ما علاقة هذا الأمر بالتسوق والأنشطة التجارية؟ لنفكر في الأمر قليلاً؛ إذا كان التعليم العام والعمل التقليدي قد ألتزم بفكرة التعلم والعمل عن بعد فهل نعتقد أن الشراء الإلكتروني والذي كان موجوداً بالسابق لن يتزايد الطلب عليه في ظل هذه الأزمة؟ بالنظر إلى توصيات وزارة الصحة والجهات الحكومية الأخرى نرى التشجيع الكبير على طلب المستلزمات الضرورية إلكترونياً بدلاً من الخروج من المنزل والتجمع في الأماكن العامة، والذي يعد سبباً لانتقال العدوى، وهذا مؤشر بأن الجهات التجارية بمختلف أنواعها قد شهدت نمواً ملحوظاً في الطلب عن بعد خلال هذه الفترة.

ومن الشواهد على ذلك، فقد أشارت مجموعة بن داود وحسب صحيفة Saudi Gazette الناطقة بالإنجليزية، إلى أنه وخلال عشرة أيام فقط؛ ارتفع عدد المستخدمين لتطبيقاتها المخصصة للبيع الإلكتروني بنسبة 400%، وهي بلا شك نسبة كبيرة جداً وقد حدثت في وقت قياسي.

ولكن هنا قد يطرح البعض سؤالاً؛ أليس من الواضح أن التأثير الإيجابي لهذه الأزمة على التجارة الإلكترونية مختص بالمنتجات والخدمات الضرورية مثل التموين والصيدليات وكذلك المطاعم؟ بالطبع فإن هذه الأنشطة ستشهد نمواً كبيراً في التحول الرقمي مقارنة بغيرها، ولكن هذا لا يعني أننا لن نشهد نمواً في الأنشطة التجارية الأخرى، وفي الوقت الحالي قد تشهد العديد من الأنشطة التي تصنف بأنها تقدم منتجات وخدمات غير ضرورية للحياة اليومية انخفاضاً في المبيعات مقارنة بما كانت عليه قبل الأزمة الحالية حتى مع إقبال الناس على قنوات الشراء الإلكتروني بشكل كبير، فمن الأسباب الهامة لزيادة هذا الإقبال هو عدم وجود خيار بديل حالياً لأن هذه القنوات هي الطريقة الوحيدة للشراء من هذه الجهات التجارية والتي لا يسمح لها بالعمل في مقراتها واستقبال الزبائن.

وهنا تبرز نقطة أخرى، فإذا كان الناس مجبورين على الشراء إلكترونياً في الوقت الحالي؛ فهذا يعني أن الأمر مؤقت وسيزول تدريجياً بانحسار الأزمة، أليس كذلك؟ في حقيقة الأمر فإن هذا يعتمد بدرجة كبيرة على الجهات التجارية نفسها، فإذا استطاعت تلك الجهات توفير تجربة شراء ناجحة بكل المقاييس للمستهلك فإنها ستتمكن من كسب ثقة المستهلكين وجعلهم ينجزون عملياتهم الشرائية عبر الإنترنت بشكل أكبر حتى بعد انقضاء الأزمة.

ومما ذكرته بالأعلى يتضح لنا مدى الخسارة التي ستصيب الجهات التجارية التي تأخرت كثيراً في دخول العالم الرقمي والتي نراها متخبطة الآن في محاولة تقديم خدماتها إلكترونياً ولكن بشكل غير منظم أو مدروس لأن الأمر قد بدأ بشكل مفاجئ وغير متوقع، ولهذا فإن على تلك الجهات أن تضع خطة سريعة للانتقال إلى التجارة الإلكترونية وتبدأ بتطبيقها بشكل احترافي بعد انتهاء هذه الأزمة.

الوضع الحالي سيلقي بظلاله على سلوك المستهلك بشكل عام حتى أولئك الذين كانوا يتمون بعض عملياتهم الشرائية عبر المواقع الإلكترونية ما قبل الأزمة، فالعديد من الدراسات السابقة كانت تشير إلى أن أغلب المتسوقين في المملكة يفضلون الدفع عند الاستلام عند الشراء من المتاجر الإلكترونية، ولكن ومع النصائح التي توجهها الجهات ذات الاختصاص مثل وزارة الصحة ومؤسسة النقد العربي السعودي “ساما”، فإننا قد نشهد نمواً ملحوظاً في المدفوعات الإلكترونية، وهذا أيضاً سيساعد في تحفيز المستهلكين على الاعتماد على هذه الطرق حتى بعد انقضاء الأزمة إذا ما كانت تجاربهم لهذه الوسائل الحديثة إيجابية.

خلال هذه الأزمة، يعد التحدي الأكبر هو قدرة شركات الخدمات اللوجستية الكبرى على تلبية الطلب المتزايد والمفاجئ على خدمات الشحن والتوصيل، وحيث إن الفرص تولد من رحم الأزمات كما يقال، فإن هذه الأزمة ستشكل فرصة كبيرة لتطبيقات الاقتصاد التشاركي للتوسع في أنشطتها واستقطاب المزيد من الراغبين في الانضمام للعمل على هذه المنصات، خاصة من فئة الشباب، وذلك لتغطية العجز الذي قد يواجه شركات الخدمات اللوجستية التقليدية.

خلاصة القول أن الأزمة الحالية قد جعلت الجميع يعي أهمية التجارة الإلكترونية والتي كانت العديد من الجهات التجارية الرائدة لا تعير لها اهتماماً مناسباً، وهذا سينعكس دون شك على ازدياد الاعتمادية على هذا النمط من التجارة في المستقبل.


error: المحتوي محمي