
تسطو الرغبة على جوارح الإنسان كسطوة الكأس الأولى على شارب الخمر، غير أن الرغبات تنشطر إلى نوعين شهوة فطرية مركبة في أصل الإنسان بلا سلطان، وشهوة عابرة ذات سلطان لكنها كقنبلة موقوتة تنفجر في لحظة فقدانها فوراً، فتتبقع وجوهنا بهالات الخوف، وتتشوه دواخلنا بالقلق والكآبة، حتى نعود ونطلبها مراراً وكلما فقدناها قاسينا عوارض الانفجار كأول مرة ولا نتورع!
بُسطت الرغبات على الموائد على مد الأبصار وافتنَّ صانعوها فناً عظيماً في زخرفتها وتهيئتها على أوانٍ من الذهب، مُدَّت الرقاب وكُبت الرؤوس، وأصبح السباق على لعق الأصابع هو شغلنا الشاغل، فالنعمة موفورة، والمتكأ مهيَّأ، وحين رفعنا رؤوسنا شكونا التخمة المفرطة، وكانت الوصفة السحرية أن نتذوق صنفاً آخر فالمائدة تطول والوقت لم يسعف أصابعنا أن تمر على جميع الأطباق، فكببنا رؤوسنا من جديد نلعق الذي كان فيه دائنا ورجونا أن يكون في قعره الدواء، فأكلنا وأكلنا حتى الإغماء ولم نعرف أصل الداء.
ولا حيَّ في عالمنا هذا قد عاش الحياة الحقيقية، إلا ذلك الذي كنا نصفه بالغريب في أطواره، والذي كان يقفُ بعيداً عن موائدنا المفروشة، وكان يعلِّق على قلبه مصفاة يعرض نفسه عليها في كل صباح فتصفي له نفسه من رغباتها، وكان دائماً ما يحكي لنا عن رغبات الإنسان فهي كما البحر لا يروي، وهي كقضبان حديدية تضرب نفسها حول الإنسان فيصبح سجيناً لها، ومن كانت حياته تدور حول رغباته سيلازمه بؤس وجوع خفي لا يشبع أبداً، وسيكون ضعيفًا جدًا وهشًا جدًا تذروه الرياح قبل بدء العاصفة، انصرفنا عنه ونعتناه بالفيلسوف وكنا نريد بذلك أنه نصف مجنون فكيف له أن يرى ما نرى ولا يفعل ما نفعل!
جميعنا اليوم على ركبٍ واحد، قد هاج بنا البحر وعتا على أمرنا التافه، وشأننا السفيه، وخياراتنا الكثيرة، وقيمنا الباهتة، وعاد ينادينا صاحب المصفاة خففوا من أثقالكم علها تستقر بنا الريح، فترانا يموج بعضنا في بعض ونرمي لذلك البحر ما جمعنا طيلة السنين والأيام عله يهدأ ولا يهدأ فيصيح بنا المنادي مرة أخرى ما لكم وعلائقكم لن ينج اليوم إلا من خفت نفسه، وهنا تبلغ القلوب التراق، فتغص الحناجر، وتجمد النواظر، وتكاد تفيض الأرواح، وتتراءى لنا صور النعيم المقيم الذي كنا نتمرغ في مروجه تقلبنا الأموال يمنة وتقلبنا الراحة يسرة، حتى لو أنه قُرِئ خبرنا هذا على القرون الأولى لقيل إنها الجنة قد تقدمت على الأخرى أو كأنها هي، وكنا ونحن على ذلك النعيم قد أكثرنا التبرم على أشياء صغيرة فكنا كمن شكت عظامه من سلكٍ حديدي صغير تحت طبقات فراشه الوثير، وشكا جلده حرارة القيظ في سلامةٍ من الوباء، وأما ذلك المنادي والذي لم يكن بحوزته ما يرميه، هرعنا إليه كيف لك أن تعيش بلا متاع؟ فقال ليس هناك من يعيش بلا متاع لكنها الكأس الأولى لا سلطان لها على الناظر إنما سلطانها على الشارب!
على الرغم من موجنا العاتِي لم تزل غمائم اللطف الإلهي تظللنا، على أرض وطنٍ عظيم يقود مراكبنا نحو النجاة قد كرم الإنسان وجسد الفضيلة في أعلى مراتبها نباهي به أمماً كنا نراها عظيمة فصار هو أعظمها، صلاة شكرٍ لله وصلاة شكرٍ للوطن، ستجعل من ذلك الحوت الذي نخاف أن يبتلعنا يعبر تحت مراكبنا بسلام.