
ننطلق في مقاربتنا للجسد الثقافي من قصة قديمة مروية في دهاليز التراث العربي، وذلك حينما تم وصف الشعر بالجمل البازل، فجاء امرؤ القيس وأخذ أفضل ما فيه ثم جاء بعده الشعراء الأعشى وطرفة وزهير وحين انتهى إلى العصر العباسي لم يبق منه شيء.
هذا التقاسم لجسد الجمل البازل الضخم والفحل هو ما يمكن تسميته تشريح الجسد الثقافي، فالجمل ليس إلا صورة رمزية للثقافة السائدة آنذاك، والمتمثلة في قولبة الحياة على الإبداع الشعري وطغيانه على بقية الجوانب رغم ما لها من أهمية في معاش الناس وحياتهم.
قال الفرزدق في مساق السخرية من شاعر مبتدئ جاء يعرض شعره عليه: “كان الشعر جملاً بازلاً عظيماً فنُحر فجاء امرؤ القيس فأخذ رأسه، وعمرو بن كلثوم سنامه، وزهير كاهله، والأعشى والنابغة فخذيه، وطرفة ولبيد كركرته، ولم يبق إلا الذراع والبطن فتوزعناهما بيننا”.
لا تهم هنا الاستنتاجات التي خرج بها الدكتور عبد الله الغذامي وهو يناقش هذه المقولة والتي جعلها في ركيزتين؛ الأولى: أن الفضل للسابق من الشعراء على التالي، الثانية: أن السابق من الشعراء من أصحاب الفضل يحتقر الشعراء الجدد أو الذين يأتون بعده؛ حيث سنوظفها توظيفاً مغايراً بعض الشيء وإن كان على اتصال باستنتاجاته.
أما الجمهور المستمع للشعر والمأخوذ بسحره فليس له من هذه الوليمة شيء، فتكملة القصة ترد على النحو التالي: حيث ذكر الفرزدق أن الجزار طلب الفرث والدم (فقلنا هو لك)، أي أن المستمع ليس له نصيب من هذا الجسد الشعري الذي تمثل في الجمل البازل.
انطلاقاً من القصة السابقة حول الجمل، نستطيع الحديث بأن التشريح للجسد الثقافي موجود ومعروف منذ أقدم العصور، لا يختلف عصر عن آخر في النظرة إليه وممارسة الطبقية الثقافية (الشعرية كما هنا) على بقية الطبقات الأدنى أو التالية لها من المثقفين الجدد.
وفي منطقتنا منطقة شرق الخليج العربي ثمة حالة ثقافية متصاعدة في وقتنا الراهن ربما يكون للشعر النصيب الأوفر فيها، ولكنه ليس الوحيد، فهناك ازدحام وتورم في الشعراء كما سنرى ونلمس عبر مقاربتنا، ولكن هناك أدباء وقصاص ومسرحيون ومفكرون كما سنشاهد أيضاً.
سبب تخصيصنا الحديث عن شرق الخليج العربي يعود إلى جملة أسباب أذكر منها اثنين: أولاً: تمثل شرق الخليج تاريخياً منطقة جغرافية واحدة وتخضع لذات القوانين السياسية والاقتصادية والدينية، مما يعني أنها تنتمي إلى الثقافة ذاتها والمتشابهة في جميع جهاتها مع اختلافات بسيطة.
ثانياً: بسبب مساحة الجزيرة العربية وتوزع السكان هنا وهناك، فإن الإلمام بهكذا تنوع سيكون في حاجة إلى عمل أكبر من الذي نروم القيام به، بل ربما يحتاج إلى تدخل من السلطة الثقافية العليا لأجل وضع هيئات أو مؤسسات تعمل على لملمة الثقافات الموجودة وإعادة توليفها ضمن إطار واحد جامع مانع، وهو ما نراه صعباً حالياً.
لهذين السببين الأساسيين ولأسباب أخرى أقل منها كتوحد النشاطات الثقافية وقرب المسافة بين الحواضر والانتماء إلى الاستقرار الناتج عن الزراعة وليس إلى حياة البداوة والترحال، هي جملة أسباب تعضد ما نذهب إليه ناحية التفريق بين أجزاء الجزيرة العربية.
ما في غرب جزيرة العرب ليس مشابهاً لما في شرقها وكذلك ما في جنوبها مختلف، والحال أن القاعدة تنطبق على الشمال كذلك مثلما تنطبق على الوسط، فالتباينات الثقافية حاضرة بقوة في جميع اللقاءات التي تجمع أطيافاً وممثلين عن كل منطقة من المناطق.
وهذا لا يعني وجود خلافات عميقة بين أبناء المناطق من الناحية الثقافية، بل يعني بكل بساطة أن المنظور يختلف من منطقة لأخرى، فالشاعر في الجنوب له معاييره المختلفة والتي يتم تقييمه على أساسها عن الشاعر في الشمال وتوحيد الشاعرين في حكم واحد ظلم لهما.
إن تركيزنا على الشعر وضرب الأمثلة المتعلقة بالشعراء لا يعني عدم العناية ببقية العناصر الإبداعية في الثقافة المنتشرة، بل يتم النظر إليه عبر الاهتمامين الرسمي والشعبي بهذا الفن العريق، وسوف نشاهد كيف أن المؤسسات الأهلية أو الحكومية تتخذ ذات الإجراء تجاه الشعراء.
وأخيراً، من أجل الدخول إلى تشريح ثقافي فإننا نحتاج إلى أمرين؛ أولهما: الحفر العميق داخل الثقافة الاجتماعية واكتشاف الأسباب التي تدفع ناحية نوع من أنواع الإبداع، ثانيهما: الحفر السطحي الذي يبين لنا مقدار الاختلاف بين الأدباء والمبدعين والمشاركين في إثراء المحتوى الثقافي.