إذا كان الشعر كائناً هشاً سهل الكسر والضياع والذوبان، فمن أين امتلك هذه القوة الهائلة والقدرة على التأثير في وجدان الجماهير؟
ألا يبدو غريباً أن المخلوق الضعيف المحتاج للرعاية والعناية الفائقة يتحول إلى أخطبوط تمتد أذرعه لتحيط بالعالم؟
الشعر كائن متطفل، ليس ابناً شرعياً للكلام، فالأصل هو النثر؛ أي الكلام العادي، وما الشعر إلا تشوهات لهذا النثر أدت فيما بعد إلى نوع من الكلام أطلق عليه الشعر.
هذه التشوهات ليست وليدة الصدفة حتماً، لأن الصدفة لا تنتج علماً متكاملاً، ويمكن ببساطة بيان خطأ القائل إن نشأة الشعر أتت من ثغاء الإبل أو الحداء. أن تترافق معه أمر ممكن لكن أن تكون ناتجة عنه فذلك مستبعد، ولنا في الأشخاص الذين يرون أن الصدفة خلقت العالم وأنتجته أبرز مثال على فقدان العقل؟!
فمن أين جاء الشعر؟ لا بد أن هنالك أمراً سرياً مخفياً لا نستطيع اكتشافه، والغالب أن الزمان البعيد بيننا وبينه يحجب عن أعيننا قدرة الكشف هاته، وسنظل نحاول اكتشاف الأصل ولن نتمكن؛ لأن الأمر ببساطة أنه خلق ليكون خفياً، فلو علم الناس منشأ الشعر فإنه سيفقد بالتالي سحره وألقه.
نعود إذن إلى التشوهات النثرية أو الناتجة عن الكلام العادي، فاللغة تسعى وتهدف إلى الإيصال، حيث الإنسان يتحدث ويقصد شيئاً ما، يتمثل في إيصال منطوق إلى الطرف الآخر، لأن المقصود بالكلام ليس الإنسان المتكلم، ولكن الآخر الغريب والبعيد والذي بيننا وبينه مسافة ما.
وهذا مخالف للشعر حينما ننظر إليه، فالهدف من الشعر قد يكون إيصال رسالة، لكنه لا يسعى إليها في جميع الأوقات، وهو كذلك لا يتوجه ناحية الغريب البعيد المختلف، بل يتوجه إلى الذات والداخل مخاطباً المشاعر، وهنا يكون التشوه الذي أتحدث عنه ويبرز أثناء الأحاديث البينية.
نعم نستطيع الادعاء بثقة أن كل تشوه لغوي يمثل حالة شعرية منفردة، هكذا أتت في البداية، والتشوه هنا ليس أكثر من سوء تعبير وسوء فهم، ترافقا ليكونا أول شعر على الأرض، بعيداً عن القواعدية ومراعاة الوزن وجميع الاشتراطات التي ينبغي توفرها فيه، وقد تم إطلاق “الانزياح الدلالي” كمصطلح يشير لما نتحدث عنه.
مصطلح الانزياح مستخدم منذ القدم وإن لم يكن معروفاً بالاسم، بل يكفي أن نشاهد الخطأ من الناطق ونكتشف الخطأ في استقبال المتلقي لندرك أن الانزياح قد وقع، وهذا هو الشكل الشعري الأول، أما ما أتى تالياً فهو البناء على هذا الخطأ؛ حيث تراكمت الأخطاء لحين الوصول إلى الشكل المعروف اليوم.
إذن ثمة نوعان من الأخطاء تسببا في وجود الشعر وكلاهما ينتميان للقاعدة اللغوية نفسها؛ الأول بالزيادة ويتمثل في خطأ الناطق الذي يكون في كلمة أو حرف أو حركة ويتغير المعنى تبعاً لذلك، فالقاعدة اللغوية الشهيرة “كل زيادة في المبنى تؤدي إلى زيادة في المعنى” واضحة الدلالة على هذا الخطأ ويجوز قلبها أيضاً لينتج الخطأ الثاني المتعلق بالنقص، حيث “كل نقص في المبنى يؤدي إلى نقص في المعنى”، فعبر هاتين القاعدتين يبرز جوهر الشعر.
إن الشعر لا يكف عن طلب الخطأ، ولذا نراه يبحث عن الخيال ويبتعد عن الحقيقة، لأن أصل تكوينه انزياح، وأساس اعتماده قاعدة الزيادة والنقصان، لهذا فإن الكلام العادي الهادف إلى إيصال رسالة لا يعمل مع الشعر لكونه يطلب الحقيقة، بينما الشعر يأتي بالخيال.
إذا كان الشعر يبحث عن الخيال ويطلبه ولا يتجه ناحية الحقيقة ولا يهتم بها، فلماذا اهتم به البشر السابقون ورأوا فيه أموراً لا يمكن لنا حالياً اكتشافها، فبالغوا في الحفاوة به والتهليل لمقدمه وإشعار الآخرين بتفوقه، ألا يعتبر ذلك غريباً وخصوصاً لدى علماء الإناسة وتطور الأجناس البشرية؟!
سيكون الغريب قيامهم بمعاكسة ذلك، فقد أدركوا الأهمية البالغة للشعر لكونه لا يمثل صوت الحقيقة، فالحقيقة متاحة ومعروفة للجميع، بل يمثل المجهول والمخفي والصوت البعيد القادم من الأعماق الوجدانية، سواء أكان ذلك متطابقاً مع الحقيقة أو مضاداً لها، فالشاعر لا يهتم هنا، حيث يمثل صوتاً بعيداً ومنفرداً عن بقية الأصوات.
وهذا الصوت المنفرد والخيالي لا يخاطب المجتمع بما يعرف، بل يخاطبه بالأشياء التي لا يعرفها والبعيدة عن تفكيره، ولذا تم استعماله كخطاب يتعالى عن الخطاب العادي ويترفع عن آلياته وأوجد لنفسه طريقة وأسلوباً مختلفاً تمثل في نظام “الأوزان والقوافي”.
إن الأوزان والقوافي ليست إلا حيلة لغوية ارتبطت بالشعر في مرحلة لاحقة، جاءت لتمييزه عن النثر، وبهذا يكون لدينا نظامان لغويان، الأول النثر الساعي إلى اكتشاف الحقيقة، والثاني الشعر الهادف إلى معرفة الحقيقة الغائبة عن الأذهان والتي هي الخيال.
النظامان اللغويان ليسا متعارضين كما قد يتوهم القارئ، فبينهما نقاط التقاء كثيرة أولها وأهمها اللغة، التي بدونها لا يكون هنالك نظام أساساً، ولكن الفارق الرئيس تمثل في توجه الخطاب، فحين يخاطب النثر العقول والأفهام، يتجه الشعر لمخاطبة القلوب والأرواح، ولا نعدم رؤية التداخل والامتزاج بين الخطابين أثناء الحوارات الكلامية العادية.
سيظل الشعر محاطاً بهالة من القداسة لهذا السبب؛ أي الكشف عن العالم الخيالي الموازي للعالم الحقيقي المعاش، وبسبب ذلك أيضاً ستتعاظم قوته وأهميته بمرور الوقت؛ لأن البشر يتملكهم الفضول وحب الاكتشاف، الذي يأتي كغريزة بشرية، فكلما بالغ الشعر في الخفاء، بالغ الناس في محاولة اكتشاف هذا الخفاء، وهنا ظهر “النقاد” والشارحون المفسرون للأشعار.
النقد مهمته الأساس اكتشاف العالم الخيالي الموازي عبر مقارنته وإسقاطه على العالم الواقعي المعاش، وعبر هاته المقارنة يستخرج النقاد الجماليات الفنية التي تتكون داخل الكلام المنظوم شعراً، والتي بطبيعة الحال تختلف عن جماليات الكلام الاعتيادي وأساليبه.
انتشر النقد وبرز النقاد نتيجة لتوغل الشعر في الخفاء، وهذا ما يمكن ملاحظته في العصور التي ازداد فيها تعقيد الشعر وصعوبة فك الخيال داخله، مثلما هو في العصر العباسي والقضية المشهورة بين أبي تمام والسائل “ولماذا لا تفهم ما يقال؟”، التي تمثل خير تمثيل ما نتحدث عنه.
أما في العصور التي تلت، فقد ازداد النقاد زيادة كبيرة، وجعلوا وظيفتهم لا تتوقف عند مرحلة التذوق البسيط بل سعوا إلى وضع العلوم القادرة على شرح الشعر وبيان أهدافه، والسبب يعود إلى أن الشعر بات يسكن عالماً مختلفاً كل الاختلاف عن العالم المعيش.
ونحن نلاحظ اليوم الزيادة الكبيرة في المناهج وطرق مقاربة الشعر وكيفية قراءته واختلاف المدارس النقدية والقرائية، حتى بتنا نعيش عالماً غير مألوف داخل العالم الواقعي، كل هذا بسبب أمر وحيد؛ الشعر بلغ من الخفاء والبعد عن الإدراك ما جعله في حاجة إلى جهد وتركيز شديدين أثناء الإصغاء إليه.
وهو ما نراه لدى الشعراء اليوم وهم يكتبون مختلف القصائد العمودية والتفعيلة والنثرية، فكل شاعر يحتاط لنفسه ويحاول المبالغة في الخيال وإخفاء المعنى، ويتوهم أن الأصل بات كذلك، بينما الحقيقة عكس ما يراه تماماً، فالأصل فيه الوضوح الناتج عن تشوه بسيط.
الشعر أساساً تشوه لغوي، استطاع الناس استثماره لصناعة نظام لغوي، تعقد بمرور الوقت وبات في حاجة للشرح والإيضاح، وصار مرادفاً للخفاء، وقد سلك زمناً طويلاً ليصل إلينا مكتملاً، فنسينا الأصل واكتفينا بالفرع؛ أي القصيدة المعروفة اليوم.