في هذه البداية حرصنا على أن تكون رسالتنا لصالح مجتمعنا، رسالة توعوية غذائية صادقة، حتى نخرج بصورة نقدية واضحة يتقبلها الجميع، ولسنا في وارد أن نحدث ضرراً أو نستهدف جهة معنية لا سمح الله، وقد نلتزم الصمت، إنما واجبنا هو السعى جاهدين لترسيخ مفهوم الوعي والتربية الغذائية السليمة، تلك التربية التي تعمل على تصحيح عادات ومعتقدات غذائية خاطئة واستبدالها بما يتماشى مع الإرشادات والنصائح التي يضعها المتخصصون في مجال الغذاء.
هذه وقفات أمسك بها قلماً لأسترسل شيئاً أريد إيصاله للناس.
من المعاناة حقاً أن ترى وتلمس كثيراً من السلبيات الخاطئة والممارسات الضارة التي تنعكس في آثارها على الفرد والمجتمع والتي تتمثل في التأثير على الصحة العامة تحت وطأة الاستهتار واللامبالاة.
قبل أيام كنتُ في أحد المخابز المجاورة لشراء بعض المخبوزات، إذ بي أضع يدي على معجنات ساخنة مغلفة بأكياس بلاستيكية، أحدثت لدي ردة فعل سريعة من حرارتها التي لا تطاق!!
أتيتُ بهذه المقدمة لكي نتلمس عدداً من الأسئلة التي ما زالت قائمة لدى كثير من الناس عن حقيقة التأثيرات السلبية الفعلية لمواد التعبئة والتغليف الملامسة للغذاء.
استوقفني هذا المشهد، أمر ليس بالسهل تقبله، ولكن دعوني أمر سريعاً على تلك السلبية التي نراها دوماً في معظم المخابز والمعجنات.
نحن أصحاب الاختصاص لا نملك سوى توجيه النصائح والإرشادات لجمهور الناس، وعلى أجهزة الرقابة الصحية في الأمانة القيام بواجبها من ضبط التجاوزات ومحاسبة كل مخالف للقوانين والتشريعات، ليضعوا حدا لما نحن فيه من جهل وعبث واللامبالاة.
قبل سنة تقريباً نوهتُ في أكثر من مقال إلى مأمونية استخدام مواد التعبئة والتغليف في الأغذية.
فالبلاستيك “الدرجة الغذائية” مادة آمنة ولا خطورة من استخدامه في أغلفة وعبوات الطعام في الظروف العادية؛ لكن لا يمكن الحكم بذلك حينما تصبح الأغذية ساخنة، لأن قابلية هجرة المادة البلاستيكية إلى الغذاء ثم إلى أجسامنا تزداد في حالة التسخين، رغم أننا مع التوجه الذي يطالب بتقليص استخدامه التدريجي والسريع حتى لا يسبب لنا مشكلات صحية، وخطورة كبيرة، بناءً على حقائق علمية أشارت إليها معظم الدراسات.
لا شك في خطورة الاستخدام الخاطئ لمواد التعبئة والتغليف، فالتعامل السليم يحمينا من أخطارها على الصحة العامة.
بنظرة عامة يمكن أن نُقيِّم طريقة تعبئة الأطعمة بمغلفات بلاستيكية بشكل عام بأنها جائرة، وقد تكون ضارة في حالة عدم تطبيق اشتراطات التعبئة والتغليف.
وفقاً للائحة الفنية “الاشتراطات الفنية لإنتاج الخبز” SFDA.FD 2362 /2018.
• بند 5/1 يجب أن يترك الخبز ليبرد إلى درجة حرارة الغرفة (25º س) قبل تعبئته.
تعودنا أن نشتري المخبوزات والأطعمة دون أن نعرف ظروف تغليفها، فوجئتُ أو أصابني الذهول عندما لمستْ يدي غلاف تلك المعجنات، لم تتحمل حرارتها، يبدو أن مسؤولي المخبز قد غابت عنهم أو تجاهلوا تطبيق الضوابط الصحية والتعليمات!!
توجهت إلى المسؤولين في المخبز بنظرة فيها الكثير من الاستغراب؛ كرد فعل طبيعي قلت لهم: ما هكذا تغلف هذه المعجنات، يستوجب منكم تركها بعد إخراجها من الفرن دقائق حتى تبرد ثم تغلف لضمان سلامتها، أو تلف بورق مشمع قبل تغليفها بالمغلف البلاستيكي لمنع هجرة مواد التعبئة والتغليف إلى الغذاء.
مع الأسف هذا المخبز أيضاً “متعهد” يقوم بتوفير ما تحتاج إليه المقاصف المدرسية في المنطقة، فهو أحد موردي أغذية المقاصف المدرسية، يقوم بتجهيز وإعداد المعجنات والفطائر، تخبز وتغلف مباشرة بالمغلف البلاستيكي لتصل ساخنة، يأكلها أبناؤنا فلذات أكبادنا، لا شك أنه سلوك ضار بل ضار جداً لهذه الفئة العمرية الحساسة، لا أخفي إن قلت: إن الأمر أصبح مخيفاً، فمصير أولادنا الأخطار الصحية الجسيمة، ألسنا في حاجة إلى أجيال سليمة الصحة؟
حينما نضطر لشراء مخبوزات، مع علمنا التام بحجم التجاوزات، ليس دليلاً على القبول بها، أو مؤشراً أو استبانة بجودتها وسلامتها، إنما التسليم بمدى الحاجة لها دون الدخول في تفاصيل مأمونيتها!
من هذا التعليل نجد أن المعايير الفنية ليست كافية لتقويم سلامة المنتج الغذائي؛ إنما التقييم في مدى تطبيق ضوابط السلامة الغذائية والاشتراطات الصحية، وقبل هذا وذاك لا بد أن تعي الضمائر.
يمكن أن نؤكد أن معظم المخابز ما زالت تمارس تلك السلبيات الضارة بالصحة، رغم أن هناك تعليمات تحذر من استعمال المواد البلاستيكية في تغليف المخبوزات وهي ساخنة.
تلك التجاوزات تمارس في غياب عين الرقيب، وصاحب المخبز قد يعاني من ضعف الضمير، فلن يغير ضميره مراقب، ضمائر ميتة أو مختومة بالشمع، كل هم أصحابها جمع الأموال، وإن كانت على حساب صحة الناس.
نحن بحاجة فعلية إلى “قلب الطاولة” في وجه أولئك الذين يريدون بنا الإضرار بصحتنا.
فلا أخفي إن قلت إن بعض المطاعم والمخابز والبوفيهات ومحلات الأغذية يهمها بالدرجة الأولى الربح دون الاهتمام بضوابط السلامة الغذائية.
ربما بعض أصحاب المطاعم والمخابز لا يعجبهم مثل هذا الكلام بعد أن ألفوا الأرباح الطائلة، فنراهم يستبيحون القوانين والضوابط الصحية دون مراعاة صحة الناس.
ومن هذا المنطلق أنصح الجميع بتوخي الحذر، واختيار الأماكن التي تتقيد بشروط الصحة انطلاقاً من الحِكم الصحية “درهم وقاية خير من قنطار علاج” و”الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى”.
يجب أن تكون هناك إجراءات شديدة الردع لكل من يتساهل في أمر تطبيق التعليمات، فهؤلاء لا يحترمون القوانين والتشريعات إلا إذا ظلت قائمة على رؤوسهم، ولا يتحرون عمل الواجب إلا مدفوعين بعامل الضرورة خوفاً من العقاب.
إن هناك جهوداً مشكورة تقدمها الهيئة العامة للغذاء والدواء ووزارة التجارة والصناعة والبلديات وأمانات المدن في مراقبة ومتابعة التزام المخابز والمطاعم والمنشآت الغذائية بالضوابط الصحية.
لذا فإن حملات التفتيش لا بد أن تتواجد في جميع محلات الغذاء على حد سواء في داخل وخارج أوقات الدوام الرسمي، لمتابعة تطبيق القواعد الصحية.
فالجميع يدعي الجودة العالية، والخدمة الجيدة، والنظافة الفائقة، والحق هي مجرد شعارات من أجل تحقيق أهداف تسويقية أو تجارية بحتة، وهذه ليست مبالغة.
إن من الأمور المسَّلم بها أنه لا يمكن مراقبة سير العمل في المنشأة، والتأكد من تطبيق الضوابط الصحية في أماكن يصعب الوصول إليها أو رؤيتها، فهي لا ترى بجهاز المراقبة، وحتى من المراقب الصحي والمترددين على المطاعم والمخابز والمطابخ ومحلات الغذاء، وهنا يحضر الضمير.. إنه الضمير.. هذا الشعور يسمو بك عن الانحراف ويعلمك كيف تدقق الحساب، ومن لا يخاف الله في عمله فإنه يخسر كل شيء.
نحن لا نطلب المستحيل من المراقبين الذين يتابعون بشكل مستمر تطبيق الضوابط الصحية، ولكن هناك بنود في اللوائح الفنية الملزمة للمخابز بتطبيقها، إلا أننا نرى الكثير من المخابز تمارس خلاف تلك اللوائح، رأينا ولمسنا ذلك بأنفسنا.
حرصنا بشدة على تطبيق اللوائح الفنية والمواصفات المعتمدة المحلية والخليجية، يأتي ذلك من تجربتنا في إدارة التفتيش بالهيئة العامة للغذاء والدواء.
إن مسؤولية الجهات التشريعية والرقابية هي وضع قيود على أصحاب المطاعم والمخابز وملاكها فيما يتعلق بالحل الذي نقترحه، وهو تواجد شخص متخصص في علوم الأغذية، ضمن الطاقم التشغيلي، للإشراف الدائم والمباشر على العمل، والمتابعة اليومية، وتوجيه وضبط العاملين بما يكفل سلامة الغذاء، ولا تمنح المنشأة تصريحاً لمزاولة هذه النوعية من الأنشطة؛ إلا بتطبيق ذلك البند، لوجود أمور يمكن إخفاؤها عن عين الرقيب، كما أن المرجو من أصحاب المطاعم والمخابز ألا ينصب اهتمامهم بتزيين واجهات محلاتهم بلوحات الدعاية والأنوار والألوان الجذابة فقط، فهذا إجراء ثانوي، إن المطلوب توفير التجهيزات الداخلية الجيدة والعمالة المدربة.
أي تبعات سلبية ومخالفات، وخصوصاً في حالة حدوث تسمم غذائي، فالمسؤولية عن حملها هو صاحب المطعم والمخبز.. بلا شك.
هل حدث لدينا انقلاب غذائي كبير تتجاذب أطرافه معطيات الحياة، وقفنا محتارين أمام سلامة ما نتناوله، فما كان يجر الناس على بطونهم إلا شهواتهم!!
إنني أناشد الجميع أن يكون لديهم وعي تغذوي ودراية كاملة بالأساس العلمي الذي يبين فوائد ومضار ومحاذير الأغذية.
منصور الصلبوخ – اختصاصي تغذية وملوثات.