في الصمتِ موت

في هذه الأزمة تَواصلَ الناسُ بينهم بطرائقَ لم يكونوا في العادةِ يتواصلون بها. اتخذوا من الرقصِ والغناء والفرح والكتابة وسيلةَ علاج ووقاية، كلٌّ بطريقته المبتكرة! من يلومهم؟ فالصمت هو صنوٌ ونظيرٌ وشبيهٌ للموت، والصوت والحركة صنوان للحياةِ والبقاء. نحمد اللهَ أننا في عصرٍ فيه من التقنياتِ والابتكارات ما يسمعنا الأصوات أينما نكون. هل فكرتَ كيف سنكون لو حدثَ هذا قبلَ خمسينَ سنةً أو حتى أقلَّ من ذلك؟

وأنا أكتب بعضاً من مذكراتِ هذه الفترة، واليوم جمعة، كم وددتُ أن نرفعَ أصواتنا نحو السماء وندعو أن تعودَ أصواتُ المصلين والداعينَ تملأ المساجد، وأن تعود أصواتُ العمالِ والكسبة والطلاب وأصوات مزاميرِ الفرح، وكلها -نَعم كلها- سوف تعود عما قريب.

إنه الصوت، الذي يفعل في الإنسانٍ ما لا يستطيع السحر أن يفعله منذ أن سمعَ أروع الأصواتِ وأجملها، صوتَ أمه، الذي ارتاح له ونام واستيقظَ عليه يهدهده في المهدِ طفلاً. عندما تحزنه الأيام تبكيه الأصوات الحزينة وعندما تطربه الأيام يرقص على أنغامها. كم هو محزنٌ أن كثيراً من الناسِ في عصرنا بطل مفعولُ سحر صوت الأم والأب عندهم فلم تعد تضيء مناطقَ العواطفِ في أدمغتهم وتثيرها كما كانت؟!

مهما عنَّ للإنسان أن يعيشَ فريداً مبتعداً عن أصواتِ البشر: “عوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئبِ إذ عوى… وصوَتَ إنسانٌ فكدتُ أطيرُ”، فلا مناصَ له من أن تيقظه الأصواتُ وتذكره أن لو كانت الدنيا صحراء فهو لن يستغني عن سماعِ عواء الذئاب، فكيف إذا كانت الحياة مليئةً بأناسٍ يأنس بهم في أوقاتِ المحن؟

تواصل الناسُ بالصوت، لأنهم عرفوه وسيطاً بين الإنسانِ والعالم والفارق بين الحياةِ والموت. به يتداوى ويستمتع الإنسان ويخف عنه الضغط والعصبية. اليوم يبعث الصوتُ الحياةَ من جديد بين أطيافِ البشر ويثير فيهم الرغبةَ الكامنة والقدرةَ على التواصل والحياة! فهلا أسمعتَ صوتك في خضم هذه الأزمة من أحببت وقلت: ها أنا ذا؟

يجب أن يكونَ القاسم المشترك بين البشر حب الحياة وضجيج الطبيعة وصوت الحب وليس صمت الموت. إذن، حقٌّ علينا كلنا أن نعلي أصواتَ الطمأنينة والراحة والتفاؤل ونخمد أصوت الإحباط والجزع، أصوات الغربان. حدثٌ وأزمة تمر كما مر غيرها، ثم يأتي ما ينسينا إياها، أليست هكذا هي الحياة، جرحٌ كبيرٌ ينسينا جرحاً أصغر وفرحٌ صغيرٌ يمنينا فرحاً أكبر؟ وفي كليهما أصوات!

أصواتنا وكلماتنا وصورنا تكشف عن داخلنا دون أن ندرك، تكشف عن التفاؤل في شخصيتنا وحالتنا النفسية والصحية، أو عن الإحباط والضعف. وتبقى الحكمة “فليقل خيراً أو ليصمت”.
وجدتُ سكوتي متجرًا فلزمتُه
إذا لم أجدْ ربحًا فلستُ بخاسرِ
وما الصَّمتُ إلَّا في الرجالِ متاجرٌ
وتاجرهُ يعلو على كلِّ تاجرِ


error: المحتوي محمي