ناقش الكاتب والناقد محمد الحميدي، في مقالة له بعنوان” الشعر عاجز والشاعر كذاب كبير”، مسألة الكذب في الكتابة الشعرية، واصفًا اللغة الشعرية بالعاجزة، وبأنها ليست دقيقة في التعبير عن الأشياء -كما وصفها-، وفي فسحة من الخطوات، نعرج على الشاعر الكذاب في دهاليز الناقد -الحميدي- الثقافية.
إن الخيال الواسع، إذا جاء عطفًا في مقابلة الواقع، تكون واقعيته الكذب، يقول: الخيال يقود إلى الخيال، ولا يقود إلى الحقيقة والواقع. شتان بين أن تعيش الشعر، كواقع، وبين أن تعيشه، كخيال، التقاطع هنا محك بين الحقيقة والخيال. أوغل الكاتب في الخيال، مرجعًا ما يدعيه من عجز اللغة، وكذب الشاعر، يأتي نتيجة هذا الخيال، الذي لا يرجع إلا إلى الخيال، كدائرة من الزئبق، لا انفكاك منها إلا إليها، في ذائقة المتلقي، وثقافته، بالنتيجة فهمه للنص، خيالي لا ينتمي إلى الواقعية بأي شكل من الأشكال، وما قوله: إن الشعر لغة بداخل اللغة، جملة تحتاج إلى تحليل بشتى الألوان، هل أرادها دليلاً على جمود المعنى في الحالة الشعرية، لتكون خيالية صرفة، لأن الشعر مفرداته، عاجزة، أو لا تتحمل اتساع الواقع، لتعبر عنه، وهذا يذكرنا بالادعاء، الذي تعرضت له اللغة العربية، بأنها لا تستطيع التعبير عن الأشياء، ولا تمتلك القدرة على مواكبة التطور بكل ألوانه وأشكاله.
حين يتم تشريح النص الشعري، ويسبر الشاعر أغوار الخيال، والمعني في اشتعالات المعنى، ليخلق من الدلالة البيانية، تصورًا بلاغيًا، بعيدًا عن أفق الواقع، والواقعية، والسؤال: أيجوز أن يكون ذلك من دلالته الكذب، في ساح الشعر، إن وضعناه تحت مجهر الواقعية؟!، ونوه في طرحه، أن الشعر منذ عصور، اتخذ من الخيال والمفردات، التي ينسجها موغلة في الخيال، بأنها ديدن الشعر، ويأتي مفيدًا في الحالة الشعرية، والإبداعية. يناقش -الحميدي- الألفاظ المستخدمة في الشعر، حيث أن بعضها، لها دلالتها البلاغية، المعنية بالخيال، واستشراف المعاني الوليدة البكر، التي حين يسقطها على اللفظ الواقعي، فإن ثمة مفارقة، أو تضاد في المعنى. إنه يسبر أغوار السياق ببن الواقع والحالة الشعرية، وما عبارة “أصدق الشعر أكذبه”، لدلالة ضمنية على ما يدعيه -الحميدي-. مثلاً، ما سطره الشعراء في الغزل، وما ألبسوه معشوقتهم من الصورة المثالية، وبأنها، تكتسي ما تكتسيه، وتعيش في ذاتها ما تعيشه، أداروا رحال الكلم في رحالها، ليدخلوها عالمًا مثاليًا -وهذا لا يعيب الحالة الشعرية بقدر أنه يثريها-، إن النظرة الفلسفية في مقارعة الحالة الشعرية، والواقعية، وكل هذه المسافة بينهما، أتكون حالة باستطاعتها استحداث لغة أخرى، وهي لغة الفن.
وعودًا على “إن الشعر لغة بداخل اللغة”، هي نتيجة طبيعية، لما يمكن استشرافه من نافذة توليد المعنى، المعنى المبتكر، كحالة ازدهار في الكتابة الشعرية، والذي يعتبر الجزء الأجمل فيها. إن الشعر، يمكنه منح المفردة، معنىً آخرًا، مغايرًا، أو مرادفًا، لما هو عليه واقعيًا، وذلك بوضعه في سياقات متنوعة، تفرض عليه المعنى، فرضًا جماليًا، مع الوقت، يصبح مستخدمًا. وعليه، فإن الشعر لا يقدم حوارًا حقيقيًا بين مجموعة من الأشخاص، في لغة واقعية، وإن فعل ذلك، فقد خرج من بستان الشعر، واخضرار أحرفه ومعانيه، إلى الحالة الإنشائية، وكتابة تعبير، يأتي، كحوار.
إن الشخصيات في القصيدة الشعرية، تجيء أشبه بالمثاليات. هكذا يقول، لا أعلم، هل وقع الكاتب في مأزق الواقع، ليعيد ترتيب الشعر في هذه الناحية، ويقيس ما كتب شعرًا من زاوية الواقع، والواقعية فقط، ليستشهد بشعراء الغزل، وكيف جاءت الأنثى في قصائدهم، بكونها لا تكون موجودة في الواقع. إننا أمام نص عاطفي، غزلي، يقلم خصلات شعرها، يصغي إلى همس خطواتها، ويتأمل حمرة شفتيها، ويقرأ الغيم في وجنتيها، والخجل، يرسم ألف حكاية، لذا فإن العاطفة، عاصفتها، تتجه، بعيدًا عن الواقع، فليس الشاعر جالسًا على منصة، ليلقي محاضرة، الهدف منها توصيف الواقع..، إنها حالة أبعد ما تكون من الواقع، هي الذات بكل أبعادها، ما يبصر وما لا يبصر. إن الحكم بالعموم في زاوية ما، غير منطقي، بماذا يجيب الناقد على كل هذا الإرث الشعري، الذي وصلنا، وتعرفنا من خلاله على الحياة الجاهلية، وما جاء بعدها من العصور، إلى يومنا هذا؟!، وكيف يجيب على ما وصلنا من الشعر الملحمي، وتعرفنا من خلاله على ما حدث فيما مضى؟!، أكل هذا، مجافيًا للواقع؟!، ألا تكون فيه نسبة، ولو قليلة من الواقع.
الاهتمام بالتفاصيل أمر مهم، فلا نأخذ الشعر العاطفي، الغزل في الأنثى، لندلل من خلاله على أن الشعر، لغته عاجزة، وشاعرها كذاب، ينبغي استيعاب الدائرة، لنستطيع إطلاق حكم، كهذا. وعليه، هل يفترض على الشاعر أن يختزل كل شعره في الأمور الواقعية، أيكون، كصاحب الطوب، يتغنى في بناء البيوت، ألا يكون -على سبيل المثال لا الحصر-، كعازف البيانو، يتراقص شغوفًا على شرفات لحنه، ألا يكون، كالمتأمل، الذي ينظر إلى سواد الليل، وبزوغ النجوم، تغذيه بالأمل الشفيف، ليهمس كله باتجاه الخيالات، لا الواقع، إن الشعراء، يسطرون أحرفهم، وذاوتهم محبرة، وأفكارهم غيمات ماطرة، ولغتهم، باتساع الكون، تحتضن كل شيء، ومنها الواقع والحقيقة.