تقدم اللغة إمكانيات مذهلة للأدب وخصوصاً للشعر، فتجعله أبرز أمثلتها وأنصع شرفاتها، وحينما تنكشف الستائر يرى الإنسان ما لا يمكن وصفه من جمالها، ولهذا استقر الرأي منذ القدم على مقولة “اللغة العليا” وأن الشعر لغة بداخل اللغة، ولكن هل هذا الكلام واقعي؟ إطلاقاً فهناك أمور يعجز عنها الشعر.
يعجز الشعر عن تقديم حوار حقيقي بين شخصين، فيحشد الشاعر الجمال في قالب شعري متميز ينتهي بموسيقى رائعة، لكن هذا الحوار رغم جمالياته الفنية واستخدامه لغة مشبعة بالأحاسيس لا يعد حواراً حقيقياً، السبب أن الحوار الحقيقي يلحظ الفوارق بين الطبقات والأجناس كالنساء والرجال والسادة والخدم، وهذا مفقود هنا.
ومع عجزه عن تقديم حوار حقيقي بين اثنين أو أكثر واعتماده أساساً على اللغة كوسيلة جذب، ستكون صورة الشخصيات التي يقدمها أشبه بالمثالية وغير حقيقية كذلك، فالمجنون وابن الأحنف ونزار يقدمون أنثى لا تمت إلى الواقع بصلة ولا يمكن إيجادها بل لا يمكن إيجاد شبيهٍ لها، وإنما مقارب فقط.
إذا كانت الشخصيات التي يقدمها الشعر غير واقعية فإن الاعتماد عليها لاستخراج ميزات النفس البشرية خاطئة كلياً، ولن تفضي إلى النتائج التي ترتجى من ورائها، فالخيال يقود إلى الخيال ولا يقود إلى الحقيقة والواقع، وهنا نستنتج أن الشاعر لا يقدم للقارئ إلا الخيال وحده ولا شيء غير ذلك.
يعجز الشعر أيضاً عن استخدام الألفاظ الدقيقة الدالة على المعنى، فيلجأ لسد فراغات الوزن بالكلمات المناسبة ذات الإيقاع الصوتي المتجانس مع بقية المفردات، وهذا ما يجعله غير أهل للاعتماد عليه في مسألة نقل الحقائق والإخبار عنها، وكذلك لا يعتمد عليه في مسائل الدلالة والعلاقة بين المفردات.
ومع عجزه عن استخدام الألفاظ الدقيقة الدالة ولجوئه إلى المفردات البديلة، يتكون لدى الشاعر عالم من الخيال، يظل يسكنه ويعيش داخله، ويظنه الحقيقة وحدها، وهذا الأمر يؤدي إلى اقتناعه تماماً بشكل محدد من أشكال العالم، فلا يستطيع تغييره إلا نادراً وبشق الأنفس، وغالباً لن يستطيع.
إذا كانت الألفاظ المستخدمة غير دقيقة، فإن الشعر برمته سيتحول إلى كتلة من الكذب الهلامي الذي يصدق على كل شيء وكذلك لا يصدق على شيء أيضاً، وستكون النتيجة أن الشاعر يكذب ويزداد كذبه بمرور القصائد والأشعار، إلى أن يصبح كذاباً كبيراً لا يضارعه أحد، ولهذا فتصديقه سيعد نوعاً من البلاهة والغباء.
هاتان المسألتان اللتان يعجز الشعر عن تحقيقهما في اللغة وباللغة، ولا يتم اعتبارهما عيباً من عيوب الشاعر بل ستعتبران مزية من مزاياه، وكلما أوغل في الكذب والخيال ارتقى درجات في عالم الفن، وهو ما يطرح سؤال الموثوقية، فكيف يستطيع القارئ الثقة بشاعر وهو يعلم عجزه اللغوي؟!
تبدو الإجابة التالية بسيطة لكنها تلخص الحقيقة كاملة: عبر الإرث الطويل الذي وصل من السابقين، فهم أجلوا الشعراء وقدروهم والناس اليوم يسيرون على خطاهم.