خرجت يومًا في القطيف عند طلوع فجرها وبزوغ نورها، أرى البحر جميلًا، فرشحت من الماء رشحة لأتذوق ملحه وأشم رائحته المميزة.. نعم إنها القطيف.
وحين أشرقت الشمس؛ نظرت إليها وخيوطها الذهبية وحمرة دفئها تغطي تراب أرضي القطيف لتبتسم أن يومًا جديدًا دافئًا قد بدأ.
وكعادتي أن أتمشى عند البحر بين شواطئه وكورنيشه ذهابًا وإيابًا.. رأيت مرتاديه متحفظين في المصافحة بينهم فسلامهم إيماء وكلامهم تسبيح وثغورهم ابتسامات تخفي وجعًا وصبرًا وبشرى!
وبينما أنا كذلك إذ سمعت صوتًا خفيفًا يناديني باسمي “يا إبراهيم”، وقد كان يهرول بسرعة وكأنه مهب الريح مطبطبًا على كتفي: إن “القطيف ستبتسم”.
حين تعبت من المشي وجلست أريح بدني قليلًا، متأملًا في الموج المتمايل بين المد والجزر، وقد لاحت لي بين الصخور نبتة خضراء سرَّت ناظري فأسرعت ألعب معها؛ أداعبها وكأنني طفل يلعب بلعبته وهو يمتلئ بالسعادة الغامرة، فما أجمل الطفولة، لكن ما أخافني أنني شاهدت بين تلك الصخور عقربًا فتذكرت قول أحمد شوقي:
رأيتُ على صخرة عقربا
وقد جعلت ضربَها ديدنا
فقلت لها إنها صخرة
وطبعَك من طبعها أليَنا
فقالت صدقتَ ولكنني
أردت أعرِّفها من أنا.
تجولت في شوارعها وبلداتها الجميلة، فكأنها غير عامرة بالناس كالمعتاد، حتى بعض مساجدها وحسينياتها مغلقة أو خالية من روادها، فما بال أهلها قد هجروا المعابد وأغلقوا المنازل على أنفسهم، حتى سمعت الأذان يعلو بالتكبير والتهليل فوق المآذن وسمعت أحدهم ينادي: إن القطيف ستبتسم.
ونظرت إلى جماعة يشيعون جنازة وهم قلة وكأن على رؤوسهم الطير بنظراتهم فتعجبت أ هذه جنازة؟! أين المبادرون والمشيعون والتائقون للأجر والثواب. ورأيت خلفهم عجوزًا تعثر بخطواتها وتحمل بيدها عصا تتكئ عليها لتعينها على عمرها الغابر الذي أخذته السنون والأيام، وهي تتمتم بأبيات من شعر الشنتريني:
ولي عصا عن طريق الذم أحمدها
بها أقدم في تأخيرها قدمي
كأنها وهي في كفي أهش بها
على ثمانين عامًا لا على غنمي
كأنني قوس رام وهي لي وتر
أرمي عليها سهام الشيب والهرم.
فسلَّمت عليّ بالإيماء والوقار قائلةً:
إن القطيف ستبتسم.
فصبرًا صبرًا.. فقد أحبنا الله ببلائه.. فقد صبر أيوب النبي فشكر ربه فاغتسل يومًا بماء طهور فتبسم بعدها عارفًا قدرة الله عز وجل على خلاصه.
فشكرًا يا رب على بلائك..
(ربنا اكشف عنا العذاب إنّا مؤمنون).