ورد عن الإمام الهادي (ع): “وإن المحق السفيه يكاد أن يطفئ نور حقه بسفهه” (تحف العقول ص ٤٨٣).
كم من إنسان يكون حاملًا لفكرة محقة أو لحق شخصي لا خلاف في أصل ثبوته، ولكن ذلك الحق يضيعه صاحبه بسبب ما يتصف به من خفة في عقله أو في سلوكه والمعبر عنه بالسفه، إذ تلك الصورة الناصعة والحقيقة التي لا غبار عليها يشوهها بكلماته أو سلوكياته غير المتزنة بل والمستفزة للآخرين، مما يؤدي إلى اضمحلال ذاك الحق وانصراف النفوس المنصفة عنه؛ لأنه لم يقدم في إطار مناسب ومحبب للنفس.
نعم، فالكلام في وصوله إلى عقل الآخرين وإدراكهم لمراميه يحتاج إلى أمرين، هما: المعنى والأسلوب، فالكلمات التي تتحدث بها تعبر عن مضامين لابد أن تستند لدليل شرعي أو عقلي أو عرف اجتماعي وهكذا، وأما الكلام الملقى على عواهنه أو البادي خطأه أو الاشتباه في بعض مقدماته، فلن يلقى للقبول والتسليم به بالطبع بل ستكون هناك ردود ونقاشات تبيّن مواطن الخلل والزلل فيه.
وهذه المجهرية والإنصات الذكي لما نسمعه من وجهات نظر وآراء يجعل للكلمة أهميتها وموضعها في تصورات الغير ومدى انسجامه معها، وليس المهم القناعة بفكرتك أو طرحك بقدر ما يكون كلامًا موزونًا يستحق من الغير الاستماع له والاهتمام به.
وما أكثر ما ترى اليوم من ضحالة فكرية تفسح المجال لوسائل التواصل بتداول تلك التصورات والأفكار التي تعبر عن شخصية قائلها ومتداولها، إذ اختلط الغث بالسمين وأضحت التمتمات والأوهام والسفسطات مجموعة من الأفكار يروّج لها وتسوق على أنها أطروحات تعبر عن مكنونات وعبقرية صاحبها، ولا يوقف مثل هذا الإسفاف والضحك على الذقون إلا امتلاك الرؤى الواضحة والثقافة الجيدة لرد ومناقشة هذه التطبيلات!
والأمر الآخر الذي تستمد منه الكلمة متانتها وقوتها هو الأسلوب المعبر عنها والقالب الذي توضع فيه، فقد تكون الكلمة حقة بمعنى أنها لها ركائزها البرهانية التي تعتمد عليها، ولكنها تبدو مهلهلة وثوبًا ممزقًا بسبب رداءة الأداء والطريقة التي ألقيت بها، وهذا ما أشار له الإمام الهادي (ع) بالكلمة الحقة الخارجة من فم إنسان سفيه قد شوه صورتها الجميلة، وجعلها كرسمة عالية الدقة ولكنه سكب عليها أحد الألوان الذي أفقدها قيمتها تمامًا.
وبعد معرفتنا معنى المحق، والذي قلنا إنه إشارة للطرح المستند على ما يدعمه من استدلال، هنا نقف مع معنى السفه والذي يشير إلى تغييب العقل والطرح المنطقي الصائب، ويعتمد على العاطفة الصرفة والتقليد الأعمى وعدم تحمل مسؤولية الكلمة والفكرة، وتارة يكون السفه في السلوك البعيد عن الصوابية والاتزان، والسفه في الكلام هو كل تلك الأساليب التي تشوّه صورة صاحبها وتحمل الغير على التنفر منه وعدم الاستماع له أو النظر في محتوى فكرته، ومن ذاك السفه الكلامي هو أسلوب الشتم والتلفظ بالألفاظ النابية والبذيئة التي تخلق حاجزًا بين الناطق بها والمستمعين له، وأسلوب الصراخ والتهور في الهجوم على من يتناقش معهم سيحول تلك الجلسة إلى حوار الطرشان، وبالتالي فقد الاستماع لما يقوله فضلًا عن تقييم ونقد وتصويب ما طرحه، فالأسلوب التوحشي نوع من أنواع العنف اللفظي الذي يخالف السليقة والفطرة الإنسانية، والتي تؤمل طرح أي مسألة أو فكرة دون أي محاولة للمساس بقيمة احترام الآخرين مهما اختلفت معهم فكريا، فالحرية الفكرية مكفولة للجميع وما خطابات الأنبياء مع أقوامهم المذكورة في القرآن الكريم إلا نموذج من نماذج الطرح العقلائي المتسم بالهدوء واحترام شخصية الآخر، والانتقال معهم من فكرة عقائدية أو أخلاقية إلى أخرى عبر الاستدلال والبرهنة عليه.
والسفه الآخر هو السلوكي وذلك بإتيان التصرفات الطائشة التي تسقط هيبة ونورانية ما تمتلكه من حقانية فكرك، فالتجاهل للآخرين أو مخاصمتهم لأجل اختلاف حول أمر ما هو نوع من السفه والبعد عن الاتزان الفكري والاجتماعي، وأسلوب التهكم والسخرية بالآخرين والتعالي عليهم والزهو بالنفس وتقزيم الغير كلها سبل تؤدي بك إلى الخرس الفكري وانقطاع سبيل الإنصاف والاستماع لك.