هبت الريحُ قبل يومين فتجمع في فناءِ داري تراب. شرعت في جمعه فطار ذاك التراب فوق كفي، فوق وجهي، فوق خدي. مسحته بعنف فتذكرت قول الخيام إن ذاكَ التراب لربما جاء من جسد إنسان. ذاك التراب الذي ملأَ الأرض، التراب الذي احتقرته أنا في تجاعيد خدي هل جاء من خدِّ أجمل النساء وأنضر الشباب يتمايل في نعومةٍ وينثني كغيداء؟
كُلُّ ذَرَّاتِ هذهِ الأرْضِ كانَتْ
أَوْجُهاً كَالشُّمُوسِ ذاتَ بَهَاءِ
أُجْلُ عَنْ وَجْهِكَ الغُبَارَ بِرِفْقٍ
فَهْوَ خَذٌّ لِكَاعِبٍ حَسْنَاءِ
هل تطاير هذا التراب من إنسان يعز مجلسه “لَنَا الصّدرُ دُونَ العالَمينَ أو القَبرُ”؟ أم جاء من إنسانٍ بسيط كان يجلس بالقرب من أحذية الجالسين في صدور المجالس؟ سيان هما بعد أن صارا تراباً لولا الروح التي تسمو وتعلو وتهبط. هل تطاير التراب من جليلِ قدر أم من إنسانٍ لا يساوي الحذاءَ الذي وطأه؟ سيان هما بعد أن صارا تراباً لولا ذلك الفارق البسيط:
صاحِ هذي قُبورُنا تملأ الرُحبَ
فأين القبور من عهد عاد
خفّف الوَطْءَ ما أظنّ أَدِيْمَ الأرض
إلا من هذهِ الأجساد
وقبيحٌ بنا وإِنْ قَدُم العهدُ
هوانُ الآباء والأجداد
تراب يملأ الأرض تجتمع فيه كل الأضداد، الغني والفقير، المالك والمملوك، العالم والجاهل.
قال المتوكل للإمام علي بن محمد الهادي (ع): أنشدني شعراً فقال الهادي: إني قليل الروايةُ للشعر فقال: لابد فأنشده أبياتاً وهو جالس عنده جاء فيها:
أَضـحـت منازلُهم قفراً معطلةً
وساكنوها إلى الاجداثِ قد رحلوا
سـل الـخـليفةَ إذ وافت منيتهُ
أين الحماةُ وأين الخيلُ والخولُ
أيـن الرماة ُأما تُحمى بأسهمِهمْ
لـمّـا أتـتكَ سهامُ الموتِ تنتقلُ
أين الكماةُ أما حاموا أما اغتضبوا
أين الجيوشُ التي تُحمى بها الدولُ
هيهاتَ ما نفعوا شيئاً وما دفعوا
عـنكَ المنيةَ إن وافى بها الأجلُ
فكيف يرجو دوامَ العيشِ متصلاً
من روحهُ بحبالِ الموتِ تتصلُ
هذا التراب الذي يتطاير هو رسائل من مضى لمن بقي بأن الأيام والأحلام تنتهي. أيامٌ كان يملأها الدهر حلاوة ثم انتهت. ليالي كانت تتوالى بالأفراح ثم انتهت، لكن وكما قال علي ابن أبي طالب (ع):
وَلَو أَنّا إِذا مُتنا تُرِكنا
لَكانَ المَوتُ راحَةَ كُلِّ حَيِّ
وَلَكِنّا إِذا مُتنا بُعثِنا
وَنُسأَلُ بَعدَ ذا عَن كُلِ شَيءِّ