“الله يأخذ بقدر ما يعطي ويعوض بقدر ما يحرم وييسر بقدر ما يعسر” مقولة للكاتب والفيلسوف المصري مصطفى محمود قد تتمثل أمامنا عند رؤية شخص حُرم من بعض النعم وكان تعويض الله له بالمقابل واضحًا.
وهذه المقولة ذاتها التي انطبقت على الطالبة المتفوقة نمارق آل صلاح، المنحدرة من بلدة صفوى، والتي ولدت وقد ورثت تشوه الشبكية بعينيها وما يُعرف بـ”الاعتلال الشبكي الاصطباغي”، ما وضعها بمصاف الكفيفات اللاتي يستخدمن طريقة “برايل” في الدراسة، لكنها مع هذا أعلنت تفوقها على قريناتها المبصرات لتنال نسبة 100% على مدى أربع سنوات متتالية، رافقتها من الصف الثاني المتوسط إلى الصف الثاني ثانوي.
“برايل” يستدعي إعادة الصف الأول
وفي حديث لـ«القطيف اليوم» مع والدة “آل صلاح” فاطمة آل عيسى قالت: “بدأت ابنتي الدراسة في الأول الابتدائي بصفوى، حيث لم أكن أعرف أنها ذات إعاقة، وخلال الدراسة أتى طاقم طبي تابع لفحص العيون وكتب تقريرًا لحالتها لتتعلم بطريقة برايل لوجود الإعاقة، ثم نقلتها للمدرسة السادسة في سيهات لوجود الدمج البصري”، موضحة أنها أعادت فيها الصف الأول لأن تعلّم “برايل” يستدعي الإعادة حتى تسير فيه بشكل سليم وسلس بدون صعوبة.
وعبّرت الأم عن خوفها في البداية من تخطي “برايل” قائلة: “كنت خائفة لكن الحمد لله كانت نمارق تفهم بشكل سريع جدًا وذكاء كبير، حيث لم أتعب معها بالدراسة أبدًا من أول ابتدائي إلى الآن وهي في الثالث الثانوي، والفضل لله رب العالمين”.
الإعاقة تحدٍ وليست عائقًا
“حين ينقص أحدهم شيء يتعلل به كونه عائقًا من العوائق التي تمنعه من الوصول للنجاح، فهل كان ضعف البصر عائقًا لنمارق؟”، تجيب “آل صلاح” عن هذا السؤال قائلة: “لا لم يكن عائقًا أبدًا، لكنه كان تحديًا للوصول، وذلك لنفسي بالدرجة الأولى، ثم للآخرين، فلابد أن أثبت لنفسي أنني سأصل وأنني على قدر التحدي، ثم بعدها أثبت للناس أنني أستطيع عمل أكثر من ذلك”.
رحلة الدراسة
وعن مشوارها الدراسي قالت: “أشعر أن رحلتي في الدراسة كانت عادية ليس بها معوقات أو أي صعوبة، باستثناء البداية حين درست في روضة عامة أي ليست دمجًا، وكنت أشعر أنني مختلفة عن الأطفال الذين كانوا معي، ثم حين درست بالصف الأول الابتدائي أيضًا كان تعليمًا عامًا، فهنا كان به قليل من الصعوبة، ثم بعد انتقالي ودراسة برايل كان الوضع عاديًا وسهلًا وتعودت عليه بسرعة، فلم يكن هناك شيء ثقيل، وأكملت سنة تلو السنة إلى أن وصلت اليوم إلى الصف الثالث الثانوي ولم أواجه أي صعوبة”.
وتكمل: “وحتى مع اختياري للقسم العلمي الذي كان الكثير يؤكد لي صعوبته، إلا أنني أصررت على اختياره، ووصل الأمر لأن يخاطب والدي الوزارة لأدرسه، حتى مع عدم توفر الكتب العلمية كالرياضيات والأحياء والفيزياء والكيمياء ببرايل، فأنا أدرس بدونها حاليًا منذ دخلت القسم العلمي، وأعتمد على شرح المعلمات فقط، ورغم هذا لا أجد أن ذلك يخلق صعوبة لديَّ في تعلمها”.
فائدة
وأكدت نمارق أنها استفادت من دراستها في الدراسة العامة قبل “برايل” لأنها لو كانت درست “برايل” بدايةً لما توصلت إلى معرفة الحروف وقراءتها الآن، لأنها ستنشغل عنه ولن يكون هناك مجال لذلك.
نظام المذاكرة
عادة ما يكون لدى المتفوقين خطة وبرنامج وربما دروس خاصة لمذاكرتهم، أما نمارق فتقول: “مذاكرتي أعتمد في غالبها على ما أتلقاه في المدرسة لأني حتى حين أعود للمنزل وأذاكر أشعر أن المعلومة راكزة في ذهني فتكون مذاكرتي فقط مراجعة سريعة، حتى أنه بعض الأحيان في الاختبارات يكون اعتمادي الأكبر على شروحات المعلمة فقط، أما مذاكرتي فتكون بالغالب سريعة”.
لوحة أدبية لطالبة العلمي
رغم أن نمارق بالقسم العلمي، إلا أنها تملك مواهب أدبية في الكتابة، حيث كُرمت لفوزها منذ شهر تقريبًا على مشاركتها الأدبية في جائزة الشيخ محمد بن سلطان بدورته السادسة عشرة، وكان من ضمن ما خطه قلمها الأدبي هذا الأمل:
“ولدتُ بلا بصر ولكنه لم يكن عجزًا، فقد كان حاجزًا بين الأمل واليأس، فكنت ألعب وأمرح كبقية الأطفال أركض وأقفز، إلى أن بدأت مسيرة المستقبل، رأيت أني أختلف عن الجميع وفجأةً لقبتُ بالكفيف، رأيت كتابي يتألف من نقاط ست ليس بالخط، وأجهزة كثيرة للكتابة لأكتب بها ولا أستطيع أن أكتب بقلم.
اعتدت على الواقع يومًا بعد يوم فوجدت نفسي أسير في درب النجاح عامًا بعد عام بلا هدف، إلى أن تفجرت عيون المواهب وبدأت حكاية الحرب، إنني أصارع السنين وأحارب كل عثرة بطريقي، فالقمة هي مبتغاي، فعندما أعتليها وأرفع راية النصر بفخر وأسقط راية الاستسلام سيقولون وسيتداولون كفيفًا وصل وفعل، وهذه نقطة الالتقاء التي سوف تقتل الأقوال.. لا يستطيع.. لن يصل.
فأنا أشبهك أيها المبصر، تستطيع وأستطيع، ستصل وسأصل، فبالأمل والثقة بالله لا شيء مستحيل، فالإعاقة ليست عثرة بالطريق، بل هي سلاح للمسير، فالأمل والقدرة لا تتوقف عند كفيف أو بصير، أيدينا متكاتفة وقدراتنا واحدة، فلنبعث الأمل بقلوبنا وجميعنا نستطيع وسنصل”.
علاقة كتابية
وعن علاقتها بالكتابة أوضحت متعجبة: “أنا لا أحب العربي واللغة العربية، ولكن كيف أحب الكتابة لا أعلم؟!”.
وتابعت: “فحين أكتب لا أتخذ الكتابة وكأنها فرض ولابد أن أكتب بموضوع محدد، لا، فأنا أكتب شيئًا من داخلي، ولا أحب أن يجبرني أحدهم على الكتابة بأحد الأمور التي لا أريدها أو لا أشعر بها ولم أجربها، فأنا أحب كتابة شيء من داخلي بالتعبير الذي أريده بإحساسي ومشاعري”.
أمنية
“غالبًا ما يبحر من يتخذ الكتابة مرسى له ببحر القراءة وعالم الكتب ليستقي من فيض كلماته لكن ماذا عن نمارق؟”، تجيب قائلة: “أنا لا أقرأ، فقراءتي أغلبها من صفحات الإنترنت لمواضيع تشد فضولي فأحاول أن أبحث وأنقب عنها، أو تكون لشيء أحبه وأريد الاستزادة منه فأقرأ عنه”.
وتمنت أن تكون هناك كتب مطبوعة بطريقة “برايل”، وأن يخصص كل مؤلف أو كاتب عددًا ولو كان قليلًا من كتبه ليُطبع بلغة “برايل” للمكفوفين.
واقترحت أن يتوفر مكان للكتب بحيث لو انجذب أحدهم لكتاب معين من حديث الناس عنه وصداه وأحب أن يقرأه، يمكنه أن يطلب طباعته بلغة “برايل”، أي تكون الطباعة بالطلب من أي كتاب يرغب به المكفوف، لأن بعض الكتب لا تجذب المكفوفين للقراءة، فكي لا تصبح طباعتها تضييعًا للوقت والجهد، يتم طباعة ما يرغبون به ويطلبونه.
مشاعر وطموح
وعن شعورها عند تكريمها بحفل التفوق الذي كان يوم الإثنين 24 فبراير 2020 م، ضمن 722 متفوقًا ومتفوقة بالقطيف قالت: “سعيدة جدًا، خاصة أن هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها تكريمي، وليس هذا آخر ما أتمناه وأطمح له، فطموحي أعلى وأكبر، وهذا التكريم بالنسبة لطموحي وأحلامي لا شيء، فأنا أريد الوصول لشيء أعلى لم يصل له أحد ويكون متميزًا”.
وعن طموح المستقبل، أكدت نمارق: “أطمح أن أكمل مسيرتي الدراسية بدخول مجال الإعلام، وأن أكون إعلامية”.
نصيحة
وعن كلمتها الأخيرة التي توجهها كنصيحة للجميع قالت: “كل هدف ستضعه أمامك وستحاول أن تصل له ستصل إليه مهما كان حجم العقبات وعددها، فليس هناك شيء صعب وليس هناك شيء مستحيل، فكل شيء تتمنى أن يتحقق سيتحقق حتى لو كانت هناك عقبات وعثرات وتسببت لك بالتألم كثيرًا، لكن هذا الألم يمكن أن يجعلك أقوى، فمثلًا قد يصادفك أشخاص يحاولون تحطيمك بكلامهم، لكن من الممكن أن تأخذ هذا الكلام كشيء من التحدي وأنك ستستطيع الفوز عليهم في النهاية”.