هل تصدقني إن قلتُ لك إني رأيتُ صباح اليوم خيولاً تطير؟!
إذا أردت أن تشيع شيئاً ما فليسَ عليك إلا أن تضع قبل الإشاعة: قال الخبير أو قال العالم ثم ترميها في حقول العقول وسوف تعرف أنها إشاعة حينما تعود إليك. وكل الخوف أنك قد تصدقها حين تعود، وأنا بعدها لا أشك أن ما رأيته لم يكن إلا خيولًا تطير.
قرأنا في الأدبِ “الجَحوي” العربي أن صبيةً اجتمعوا ﻳﻮﻣﺎً ﻳﻠﻌﺒﻮنَ على بابِ دارِ جحا ﻓﻘال ﻟﻬﻢ ليبعدهم ﻋن داره: إن ﻓﻲ دارِ ﻓﻼن وﻟﻴﻤﺔ ﻓﺬﻫﺒﻮا. وبعد أن ذهبوا قال جحا في نفسه: ربما يكون هناكَ فعلاً وليمة! لحقَ جحا بالصبية ولما رأوه ولم يكن هناكَ من وليمةٍ أوسعوه ضرباً.
إن كنت تعتقد أن كلَّ من يؤلف تلك الأساطير والإشاعات هم الجهلة “الجحاويون” فأنت واهم. بل هم أذكياء حاذقون ومثقفون يستفيدون من مصائبِ غيرهم. حيث يهرع إليهم البسطاء ومن ليسَ له حيلة فلا يجد سوى السراب والوهم بينما هم يملكون ماءَ الحياة الحقيقي “مؤقتاً” ثم كما يحكي تاريخُ البشر أن طابخَ السم لا محالةَ آكله.
من طرائفِ الإشاعات التي لا تبعد كثيراً عما يتطاير اليوم وعندما كنا في سني الطفولة أشاعَ شخصٌ ما أن هناكَ مشترٍ قادمٌ من خارجِ الجزيرة وسوف يشتري بقايا الزجاج المكسور. ولحاجتنَا للمال تجمعنا صغاراً وكباراً، كل يعرض ما طالته يداهُ من بقايا الزجاج. أظن أنه لم يبقَ في الجزيرة التي كنا فيها قطعةَ زجاجٍ إلا والتقطها أحدنا. وقفنا في باحةِ السوقِ طويلاً بانتظار أن تتحققَ الآمال في شراءِ الزجاج ولكن لم يأتِ أحدٌ ليشتريه. نثرناهُ مرةً أخرى حيث كنا ثم انصرفنا. لا يزال يراودني شكٌّ بعد عشراتِ السنين أنَّ من أشاعَ الكذبة كان أحدنا، الذي جمع أكبر وزنٍ من الزجاج المكسور، وأنه هو الذي ناله أكثر من جرحٍ في يديه.
لم تعد الإشاعات مثل الأدبِ الجحوي العربي القديم بل فتش في كلِّ إشاعة عن وليمةٍ دسمةٍ ليس للبسطاء فيها من نصيب وإن كان من شيء فليس سوى الضحك على الذقونِ والسخرية والأذى والاحتقار! الجنة والنار والمال والصحة من أفضلِ المفردات في تنميق أدب الإشاعة الحديث الذي تفوق على ذلك الأدب وارتقى فوقه درجات!
قاعدة العقلاء تقتضي أن يكون {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} وكذلك “ما رأته عيناك فهو الحق وما سمعته أذناك فأكثرهُ باطل”. فإذا أخبرك أيٌ من الناس أن هناكَ خيولاً تطير ولم ترها فهي إشاعاتٌ وأخبارٌ شيقة ومثيرةٌ للفضول لكنها زائفة تنتشر في المجتمعِ بشكلٍ سريع وتُتداول بين العامة ظناً منهم صحتها. فمتى ما كانت الأخبارُ عصيةً على التصديقِ فهي كاذبة!