عالم المدارس عالم اجتماعي فيه سفيرات لكثير من الأسر. كلُّ طالب في المدرسة يُمثل أسرته، أو يمثل نفسه بما يحمل من مفاهيم ومدلولات هي عنوان له، وقد شكّلت قناعاته. مع العلم أن هناك الكثير من الطلاب والطالبات لهم تفكيرهم الخاص المستقلّ تمامًا عن أُسرهم.
فهم منظومة خاصة مبعثها ذواتهم التي تبعد كثيرًا عن الأسرة إيجابًا أو سلبًا.
من بين بناتي طالبة مميزة بنظرتها الاقتصادية تختلف عن غيرها من الطالبات وأجزم بعدم وجود مثيلاتها سألتني مرةً:
لماذا تُباع قنينة الماء بريال في المدرسة وفي مكان آخر بست ريالات؟
وسعرها في السينما سرقة ظاهرة!
منطقها جميل إذ تندد قائلة: هم يسرقون أموالنا ونحن نصفق لهم، لكن لا حياة لمن تنادي، فالبعض يعتبرها صنعة لبوس، ونحن نعتبرها شموخًا اجتماعيًا إن صح التعبير. وهيهات لوجود مُعتبِر بيننا.
يقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم):
“إِنَّ التُجَّارَ يُبعَثُونَ يَومَ القِيَامَةِ فُجَّارًا، إِلَّا مَن اتَّقَى اللَّهَ وَبَرَّ وَصَدَقَ”.
ولعل حديث الرسول أبلغ قولًا مما عليه نحن الآن من تدليس وغش يواجهنا في كل مكان.
لقد غدت هدى من المستثمرات الصغيرات في سوق الأوراق المالية وكان والدها خير معين لها إذ كان موظفًا في أحد المصارف الاستثمارية.
أما الطالبة الثانية ابنتي غدير فتجمعها مع أسرتها أصول بيولوجية وراثية في حبّ القراءة، جميع أسرتها أصدقاء للكتب؛ لذلك تقضي غدير جلّ وقتها بين الكتّاب تحاورهم وتستلذّ بالحديث معهم. تطالعنا بأسرار غريبة وتنقلنا إلى آلاف السنين، تجوب بنا الأراضي الشاسعة وقد تعتقد من خلال حديثها الجميل أنها شهدت بناء الأهرامات وكانت من مشيدي تمثال الحريّة أو أشرفت على بناء سور الصين العظيم. وفي صراعها مع المجهول بين قصصها ورواياتها كانت تُحلل الأحداث وتحولها إلى براهين وأدلة تكشف خيوط الجرائم وكنت أخالها تُسابق المؤلف للوصول إلى كشف جميع الألغاز.
طالبتي الرائعة غدير كان خلفها أم تشحذ عزيمتها، وتدعم ثقتها بنفسها في كفاحها في ساحة القراءة، إلّا أنها لاحظت على غدير بعض التصرفات الغريبة كالانزواء التّام عن الأسرة والخوف الشديد من الناس. وقد وصل بها الأمر إلى الريبة في الطعام المُعد من قبل أمها، وما برحت تُلقي التّهم على أفراد أسرتها، يسيطر على إيماءاتها الجسدية عقل يتخيل الجريمة، يستنتج، يزاوج، يوحي بأحداث يصعب تصديقها وخاصة في أسرة متّزنة نفسيًا وسلوكيًا كأسرة غدير.
باستطاعتك أن تضع التساؤلات المُخيفة لمصير غدير، هي بخير وقد طلبت مني كتابة قصتها؛ لأنها أوغلت في قراءة عالم الجريمة والقتل وقد اكتشفت أمها الروايات الغريبة التي كانت تغذّي عقلها، ويظهر أثرها واضحًا في سلوكها فقد كانت تتنفس بإجهاد وهي تقرأ عن عالم الأموات وقصص (حفلات الزومبي) وتتخيل أن أحدًا ما يريد وضع السمّ في طعامها كما حدث للممثل الياباني (باندو ميستغرو) وقد حدا بها الأمر إلى أن تسأل أمها: هل من الممكن أن تقدم الخادمة على الانتحار؟
وأصبحت الأم تداعب أوتار الخوف مما آلت إليه غدير، فلجأت لمختص نفسي استطاعت بمعاونته إقناع غدير باستبدال تلك الكتب الدامية لكتب تطوير الذات وقصص الناجحين في الحياة.
ومع الاستعداد الفطري الذي كانت تتكئ عليه غدير ظهرت قراءات مختلفة على وجه غدير وشاركت في الكثير من المسابقات المدرسية وأثبتت أن هواية القراءة ليست بالقاتلة وإنما هي حكاية ماطرة بالنور والزهور، تهتف معانقةً الحياة بشتى أحلامها.
ولعلي الآن بحاجة إلى تغيير مجرى قلمي لوجهة أخرى حيث أناجي الله تعالى أن يحفظ أبناءنا وبناتنا من الانجراف نحو هوايات قاتلة يلهُون بها ثم تلهو بهم فتذرهم قاعاً صَفْصَفاً.
إنّ التّنبه الفكريّ للأبناء أمرٌ أكثر أهمية من مأكلهم وملبسهم. خاصة في وسط استمالة النشء نحو الصور المتناقضة كتناقض الليل والنهار، وتهافتهم على الانفتاح العالمي مثل تهافت الفراش على الضوء.