من رحم المعاناة .. «المنجلي» يوقف المسلم على منصات التطوّع بعد كرسي التعليم

ماذا لو اكتشفت أنّ هناك من يشاركُك حياتك الخاصة جدًا؟ يزورُك متى شاء وكيفما شاء؟ يتقاسمُ معك اللحظات الحلوة، بل يسرُقُها منك، ويصيّرُ ليلكَ نهارًا ونهارَك ليلاً، وكأنه يخوض معركةً معك.

وماذا لو كنتَ أنت الأقوى نفسيًا في تلك المعركة مع ذلك “الزائر”، لكنّه بعدّتهِ وعِتادهِ يأبى إلا أن يرفع راية الانتصار عليك؟!

وما تفعل معه إن كانَ لا يحارِبُك أنت، لكنّه يتقاتلُ مع أغلى من لديك؟

معركة نفسية وجسدية شرسة عاشتها سهى المسلم مع ذلك الزائر الثقيل، مع “فقر الدم المنجلي”، الذي أبى أن يرحل إلا وشريك حياتها معه، لكنّ تلك التجربة المريرة لم تفقدها كالكثيرين صلابتها وقوتها، بل صنعت منها ” إلهامًا” من نوعٍ خاص.

سهى هي ابنة مؤرخ القطيف الراحل والشاعر محمد سعيد المسلم، خريجة بكالوريوس علوم رياضيات جامعة المستنصرية ببغداد، تخرجت عام 1985م فهي عراقية المنشأ، سعودية الأصل، لبنانية الهوى من جهة والدتها، لكنها أمضت كل طفولتها وشبابها بالعراق نظرًا للظروف المادية الجيدة للأسرة ورغبة الوالد الراحل بالقرب من المستويات الثقافية والأدبية التي كانت مطلبهُ إضافة للأجواء الاجتماعية للعراق، وتقاعدت عام 2015م تقاعدًا سابقًا لتاريخه الأصلي، وقد كان قرار تقاعدها متزامنًا مع ولادة حفيدتها.

أعوام العطاء
لم يكن التدريس هو ما طمحت له  بعد تخرجها ولكن لمحدودية مجالات العمل آنذاك بين التدريس والمجال الصحي جعلها تنخرط في مجال التعليم، الذي كان في الحقيقة صدمة في بدايته بسبب طريقة التعليم وجمود اليوم الدراسي فلا حصة رياضة، أو رحلات مدرسية تكسرُ الروتين المدرسي، وحتى الأنشطة كانت توسمُ بالرتابةِ والملل ناهيك عن المناهج آنذاك -حسب قولها-، مضيفةً: “بيْد أنّ الزميلات والطالبات أضفن على رحلة العطاء روح المتعة”.

وفي التقاعد، وجدتْ حياةً أخرى فكان السفر مرارًا إلى أولادها الذين  يدرسون بالخارج يجدّدُ فيها دماء الحياة وفي القطيف الأم تراوحُ يومها بين ممارسة رياضة المشي في الصباح الباكر على الكورنيش، والقراءة، وأداء الواجبات الاجتماعية والاعتناء بحديقتها التي أحبتها كثيرًا فكان أن انضمّت لقروب زراعي أفادها كثيرًا بالخبرات والمعلومات.

أما الآن فهي حريصة على أخذ دورات أونلاين عن الإسعافات الأولية، والمسوق الإلكتروني المحترف، ودورة في الطاقة الشمسية وهي إحدى اهتماماتها للاستفادة منها بالإنارة الخارجية حاليًا.

2005
وعن تجربتها المُلهمة تفتح المسلم قلبها لـ«القطيف اليوم»: “مرض فقر الدم المنجلي كان من أقوى المصاعب التي خضتُها في بداية زواجي، لقد كانت نوبات الألم هي الزائر الثقيل علينا وخصوصًا أنّهُ لم يكن لدي أية دراية بالمرض وتبعاته على المريض حتى عام 2005، حينما امتحنني الله تعالى بوفاة زوجي بعد أعوامٍ تشاركتُ فيها قسوة ذلك الألم الذي لا يرحم، بعدها قررت بردة فعلٍ طبيعية في نظري أن يكون لي نداءٌ مسموعٌ للمقبلين على الزواج بأن يتخيروا شريك حياتهم ويتقيدوا بفحص ما قبل الزواج، فانضممتُ إلى مجموعةصديقات وحدة الدعم المعنوي لفقر الدم المنجلي”.

الحُب جمعهن
وحدة الدعم المعنوي هي مجموعة مكونة من نساء جمعهن حب العمل التطوعي، وعددهن يتراوح بين 15 و20 متطوعة، وفيهن السليمة والمصابة والحاملة للمرض وكلهن يعملن بحب وعطاء سخي كل واحدة حسب ظروفها، وقد كانت المسلم ضمن صديقات المرضى وكانت اللجنة تعمل تحت إدارة الرعاية الأولية.

وللمجموعة هدفها السامي بالتوعية من الأمراض الوراثية وكيفية انتقال المرض بسبب الزواج غير المتكافئ، وضرورة التقيد بنتائج الفحص ما قبل الزواج.

وقد شاركت المجموعة في العديد من المهرجانات التي يقيمها مركز التنمية الاجتماعية بالقطيف.

عن المجموعة تقول: “هذه المجموعة التطوعية ليست تحت أية مظلة رسمية، وكلنا أمل أن تقر رسميًا جمعية “أمراض الدم الوراثية بالقطيف” لنكون جزءًا فعّالًا منها”.

إلهامٌ خاص
معركة المسلم لم تنتهِ بفقدها زوجها المصاب فقط، ولكن الله تعالى اختبرها في حبة قلبها أيضًا، فاستمرت بقتالها ضدّهُ؛ لتحمي ابنها المصاب كذلك، إنّها تحملُ رسالة للمجتمع تقول فيها: “كوني زوجة وأمًا لمصاب؛ أتفهم جيدًا مشاعر الخوف والقلق للأمهات حيال أولادهن، ودائمًا ما يسألونني عن تجربتي مع ابني، في الحقيقة هناك أمور أهم من الدواء لمرضى فقر الدم المنجلي كالدعم والصبر والقوة وإمداد الطاقة والحياة لمن يحتاجها، وخاصة المقربين منا”.

وتضيف: “كما أنّ تقديم الدعم المعنوي والنفسي للمريض مهم كان جنسه وعمره بالزيارات الميدانية سواء كانت منزلية أو في المستشفى بحسب حالة المريض هي عبارة عن أذن صاغية لمعاناة المريض من عدم توفر الهيدروكسيوريا في بعض الأحيان وكذلك  البرتوكول الدوائي للمسكنات القوية لتهدئة الآلام المبرحة الذي يعاني منها المريض، إنهم يحتاجوننا بقربهم دائمًا”.

الرسالة الأقرب
يضم قلب سهى وذاكرتها كثيرًا من الرسائل والعبارات التي تلقتها في مشوار دعمها، من بين تلك الرسائل تذكر أقربها إلى نفسها، وقد تلقتها من مريض في مستشفى المواساة يقول فيها: “إنّ الأخذ والعطاء معكم يشعرنا وكأنكم تعيشون معاناتنا وتشعرون بألمنا، إنّ بكم شعورًا حقيقيًا تجاه المريض يخبرهُ أنه هناك أناس يقفون معه وإرسال رسالة؛ لا تخف لست وحدك في هذا، نحنُ معك في تحدي العواقب وتجاوز كل المحن، إنك فرد من أفراد المجتمع وشخص سليم تتحدى الإعاقة”.


error: المحتوي محمي