في جلال الصمت يظهر أجمل مقياس للجمال، وفي حكايا الملامح الصامتة يظهر ضجيج الهيبة والوقار.
في رؤيتنا لهم يتبادر إلى أذهاننا أن صاحب الرداء الصامت عاجز عن الحديث حتى ولو بكلمة واحدة. ولكن يتجلّى لنا بعد نطقه أنه آية من البيان.
بخلاء في أحاديثهم لكن يبدو أنهم يُخْفون كنوزًا خلف هذا الصمت المهِيب، ومن إصغائهم تنتفض الحكمة.
وقد يواجهك ذلك الصامت بعبارة تُسقطه في هُوّة عميقة ما لها من قرار فكان صمته أحفظ له. لذلك تُخلّد الكلمةُ أصحابها في وعيهم للموقف وقدرتهم المدهشة على فهم ما يدور حولهم بصمت.
إن الصمت ولغة الجسد يمثلان جانبًا مهمًا في الاتصال الإنساني. ولا أدلّ على جمال الصمت وحديث الجسد من دلائل الاستبشار تلك وعلامات الفرح اللتين عانقتا وجه السيدة مريم وهي تحمل وليدها نبي الله عيسى (عليهما السلام).
يقول الله تعالى في كتابه الكريم:
{فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [26: مريم]…
وإذا أردت أن تقرأ أجمل الملامح دون أن تُدير حديثًا كلاميًّا فانظر إلى ذلك الطفل الذي يناغي أمه بأجمل ابتسامة يعقبها ضجيج حبّ قوي. صورة جميلة تهزّ قلوب المبصرين تُخرج آلاف كلمات الغزل بلا حروف. أبجدية ساحرة لم تعرفها لغات البشر هي لغة العيون وإِيمَاءات الجسد.
تلك الابتسامة تلتهم كل حروف اللغات ويشعر صاحبها أنّه التهم بها كل مشاعر من حوله فالعاقل من تصدّق بها على الناس إينما ذهب وأشاع بها صفات المؤمن الحقيقي الذي يتغنّى البُشْر في وجهه ويدفن الحزن داخل قلبه.
يقول المخرج الروسي ماييرخولد:
“إن الكلمات ليست كل شيء، ولا تقول كل شيء، ويجب أن يستكمل المعنى بالحركة التشكيلية الجسديّة”.
فكان للجسد لغة يمسك بها لجام القلوب ولا شيء أجمل من نظرة الحب والامتنان في حديث مقتضب ينقذ صاحبه من قساوة الحياة الرتيبة.
إنها الحياة يا سادة لا وقت فيها لأن تقتل مشاعر الآخرين بوجه متَجَهِّمُ ومُكْفَهِرُّ وتستقبل الناس بعبوس ليس لشيء سوى أنهم جاءوا لموظف في دائرة حكومية يراجعون مصالحهم فكان حديثهم معه أشبه بتيار كهربائي لسعه فغادرت جميع ملامح الحياة وجهه البائس وأبدلتها بوجهٍ امتلأ حزنًا وبؤسًا.
فإذا بخلت بالكلمة الطيبة فلا تبخل بابتسامة صافية فلن تكلفك شيئا من جيبك الخاص.
حتى البخلاء بأموالهم يدخلون السعادة على القلوب أحيانًا بمواقفهم المضحكة المبكية.
لقد عاش البخلاء في خيال الجاحظ عيشًا هانئًا.
مرّ على قصصهم دون تجريح لمشاعرهم، وانتقاص لإنسانيتهم، فكان حديثه ينطق طرافة وفكاهة على مواقف بُخلهم وتطفلهم على موائد المناسبات المختلفة دون دعوة.
لقد وصفهم بخفة الدم مرة، وأخرى بالسذاجة وأوغل في توصيف شخصيات اخترعها من خياله مثل أبي الحارث جميز والهيثم بن مطهر ليزيد جرعات الضحك والفكاهة من خلال نوادرهم.