استعَزت وقويت شجرةُ التينِ بعد ضعفها في الشتاءِ الدافئ. عانت طويلاً من ملوحةِ الماء وفقر الأرضِ من الغذاء، ثم حملت ثمراً أكن له كثيراً من المودة. لم يخلُ أي من البساتين التي تنقلنا وعشنا فيها في صغرنا من شجرةِ التين. نجني ما تيسرَ من أشجارها القريبة ولم نعصم أيدينا الصغيرة عن قطفها من بساتين غيرنا إن تمكنّا منها.
أعادت تلك الشجرة خيوطَ الذكريات خمسينَ سنة فيها تمنيت أن كلَّ شجرةٍ كانت شجرة التين! أترقب الثمرةَ وأقلبها وأتحسس ليونتها بين الفينةِ والأخرى وحين أظن أنها نضجت يكون العصفورُ قد سبقني إليها وأكلها. سبحانَ من أعطاه القدرةَ أن يسخر من عقلي وحواسي فهو يشمها ويراها ويعرف اللحظةَ التي فيها يطيب مذاقها دون أن يحطَّ على الشجرةِ في الصباح وفي المساء!
دعواي المقامة على العصفور أنه لا يرقب فيَّ إلاًّ ولا ذمة ولا حلفاً وعهدا. ويسطو على الثمارِ كلها دون أن يتركَ لي واحدةً إلا بعد أن أحتالَ عليه وأغطيها. في عمومِ الدعاوى يشتكي الضعيفُ من القوي، ولكن ها أنا ذا أشتكي من ضعيف وكلانا يشتكي إلى الله ممن هو أقوى منه. وكل الرجاء أن يكون العصفور قد نسيَ أنني في شقاوةِ الطفولة اصطدتُ الكثيرَ من آبائه وأمهاته!
تسوّر شخصان جدرانَ محراب النبي داود (ع) ليحتكمَا عنده. فزع عند رؤيتهما، ثمّ استمعَ إلى أقوالِ المشتكي الذي قال: إنّ لأخيه ٩٩ نعجة وله نعجة واحدة، وإنّ أخاه طلبَ منه ضمَّ هذه النعجة إلى بقيّةِ نعاجه، فأعطى داودُ الحقَّ للمشتكي، واعتبر طلبَ الأخ ذلك من أخيهِ ظلماً وطغياناً، ثمّ ندمَ على حكمه هذا، وطلب من الله سبحانه وتعالى أن يعفوَ عنه ويغفرَ له، فعفا الله عنه وغفر له.
ربِّ اغفر لي فهل لم يتسور العصفورُ جداري؟ ولم يأكل كلَّ تينةٍ رآها؟ أليس ليَ الحق أن أدّعي؟ لكنني ومهما كان من عملٍ قام به العصفور الذي لا يليق بمقام زائرٍ ضعيف سوف أغفر له وسوف أخبر أصحابي أن يزرعوا شجرةَ تينٍ في منازلهم وفي حدائقهم. شجرة من الأشجار المباركة، ومن أقدم الأشجار التي عرفها الإنسان. تعمر طويلاً وكانت مع بعضِ العنب والنخيل تزين البساتين في مناطقنا. وهي اليوم تأتي من الخارج بمختلفِ الألوان والأذواق. وبإمكانها أن تعيشَ في ظروفٍ قاسية وتعاد زراعتها من بعض فروعها.
ازرعوها فهي كنزٌ من المعادنِ والألياف وأسطورةٌ في تاريخِ وحكايات الحضارات. أكاد أجزم أن كثيراً منكم عرفَ تلك الشجرة ورآها كثيراً وابتهج لرؤيتها عندما تأتي أوراقها خضراءَ، كبيرة ومتفرعة ويعلو فروعها كثيرٌ من حباتِ التينِ الصفراء!
