غربة زمن

في أغلب المدن العربية ترى اليومَ الحاضر يخنق الماضي. في الأكلِ والملبس والعلاقات الاجتماعية، ما يكاد يكون نمطاً مستجداً في طرق وأساليب الحياة. بينما يحاول الماضي التشبث بالبقاء وكأنه يقول: أنا العريق والأصل الثابت الذي لا غبار عليه، وكل ما هو جديدٌ لا أصل له! نساءٌ يلبسن الخمارَ الأسود لا يظهر منه سوى أحداقُ العيون في لباسٍ لا يرى الناظر ماذا يخفي خلفه، لكنه يقل ويختفي يوماً بعد يوم. ينازعهم المنافسة على الضفةِ الأخرى من المشهد منظر صبياتٌ ونساء لا يَخفى من زينتهن شيء. هم أقرب إلى الغرب من الشرق. تشتد الريح فتبعثر خصلات الشعر وترفع الغطاءَ المزركش بألوانٍ جميلة عن ملابس عصرية ورقيقة.

لن تسمعَ في المقاهي “العريبة” التي تبيع ألوان وأشكال القهوة الغربية في كلِّ ناصيةِ شارع صوتاً مألوفاً يأتي من المذياع بل لحناً غربياً وكلمات لن تفهمها إلا إذا تغربتَ مدةً طويلة أو تعلمتَ اللغةَ الإنجليزية ودرستها جيداً. في كل الحواضر العربية ترى شبانا وشابات استَساغوا الثقافةَ الغربية في المأكلِ والمشرب والملبس وكل تفصيلٍ من تفاصيلِ الحياة.

لا شك أن محتويات أغلب المدن العربية اقتربت كثيراً من المدنِ الغربية في كلِّ شيء، الحجر والبشر، فالمباني غربية الشكل والهندسة وذوق من فيها صار غربي الهوى! وكما لو أن الحضارة الغربية أصبحت نقطةَ المنتهى التي استكان لها وخضع كل الأذواق والعادات فلا شيءَ يضاهيها في السيطرة والسطوة. وليس بعيداً أنها سكنت أعمقَ من الملبس والمأكل في داخل كثيرٍ من الناس.

يقال إن الجيل الذي يقلد غيره وينبهر في السطحيات والمظاهر يشبه الغراب الذي رأى حمامةً فأعجبته مشيتها. نسي أن يتذكر أنه غراب فراح يقلد مشيتها فلم يستطع أن يجيد مشيتها وحين أراد العودة إلى مشيته لم يقدر أن يعود إليها. لكن من يلوم من تعجبه وتبهره الحضارة التي أعطته كلَّ الرفاهية في الحياة من المواصلات والدواء وتقنيات التواصل؟ بينما عجزت وشاخت حضارته قبل أن تُنجب له منتجاً واحداً يشابه ما أنتجته الحضارة الغربية!

يبدو أن كثيراً من جيلِ اليوم لا يهمه ما قامت به الحضارة الغربية من خطايا وجَرائر إنسانية لم تقم بها كثير من الحضارات التي سادت، ما دامت هذه الحضارة تستمر في تقديمِ المنتجات الاستهلاكية وإبراز نفسها أنها رائدةَ التقدم وأم الحضارات. فمن يريد المنافسة على الفكر والعقل عليه أولاً أن يصنعَ أشياءً ملموسة ومرئية وينافس بالقول والفعل خارجَ مآثر التاريخ وداخل أروقة الحداثة والمستقبل.

ويبقى السؤال هو: هل يذهب جيل اليوم بعيداً إلى تقليدِ الجوهر في الجد والنشاط والتعلم أم يبقى مكتفياً بالمظهر يسخر منه الحمام ويسخر منه الغربان؟ وماذا كان يضر الغراب لو بحث في مكنوناتِ ما عنده من طرق المشي وقومها بدلاً من أن يستورد مشي الحمامة؟


error: المحتوي محمي