شكّل الفقر كظاهرة اجتماعية قلقًا للإنسان على مدى تاريخه وأدرك منذ زمن طويل الآثار السلبية الواضحة والتداعيات الخطيرة على الأفراد والمجتمع والنظام العام. وشكّل الوعي بهذه الظاهرة فهمًا لمتلازماتها من الفساد الخلقي والجهل والتهديدات الأمنية للمجتمع.
ونحن المسلمين نجد في تراثنا الكثير من التشريعات والسنن التي ندب إليها الدين تدور حول معالجة هذه الظاهرة من الصدقات الواجبة إلى الصدقات المستحبة إلى الحض على مساعدة الفئات الضعيفة كالأيتام والأرامل إلى الحض على العمل والإنتاج إلى تقبيح الحاجة ومسألة الناس وغيرها مما فاضت به كتب التراث. وبعض من الكلمات المأثورة تشير إلى مدى الفهم العميق لهذه الظاهرة من قبيل ما أثر عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في قوله: “لو كان الفقر رجلًا لقتلته”.
ولقد فكر الإنسان منذ القدم في هذه الظاهرة وأسبابها وتجلياتها وآثارها وكيف يمكن الحد منها ومحاربتها. وتقوم اليوم لهذا الغرض العديد من المنظمات العالمية والوطنية العاملة في هذا المجال بالإضافة إلى العديد من مراكز البحث التي تحاول تسليط الضوء على أبعاد الظاهرة والتغييرات الاجتماعية والاقتصادية المؤثرة فيها وسلوكيات هذه الفئة الاجتماعية وكيف يمكن مساعدتهم للنهوض خارج حالة الفقر والحاجة.
وإن كان وجود الفقر كحالة اجتماعية أمرًا واضحًا لا اختلاف عليه فإن تحديد هذه الحالة بمحددات واضحة تميز حد الفقر أمر صعب تتداخل فيه متغيرات كثيرة. فهذا الحد أمر نسبي يختلف باختلاف المجتمعات ويختلف من وقت لآخر حسب تغير ظروف المعيشة والسلوكيات الاجتماعية المعتادة. وتقوم في كثير من البلدان جهات حكومية أو متخصصة بدراسة المؤشرات الاقتصادية وتكاليف المعيشة المحلية للوصول لما يعتبرا حدًا أدنى للمعيشة الكريمة وتعتبر مثل هذه الدراسات دليلا لصناع القرار في الجهات الحكومية أو الخيرية لتحديد السياسات الاجتماعية على أساسها. وحسب بحثي المحدود جدا وجدت أقرب دراسة تحاول تحديد حد الفقر في مناطق المملكة العربية السعودية المختلفة هي الدراسة الصادرة عن مؤسسة الملك خالد الخيرية بعنوان (تحديد خط الفقر وحد الكفاية) لعام ٢٠١٦ ولم أعثر على تحديث لها قريب من يومنا هذا فأرقامها ومؤشراتها لم تعد صالحة اليوم. وربما كان الباحث الاجتماعي من أحوج الناس لمعرفة هذه المؤشرات والمحددات لتسهيل عمله في تقدير استحقاق الأسر الفقيرة من المساعدات على ضوء المعلومات التي يجمعها.
ويمكن تصنيف المستفيدين من الجهات الخيرية لفئتين:
فئة ذات عوز طارئ أحوجتها ظروف مؤقتة إلى طلب المساعدة (طرد من وظيفة أو تعرض لحادث أو مرض أو دين أو ما شابه) ومساعدة هذه الفئة مساعدة غير متكررة مع الأمل في عودتها إلى حالة الكفاية بعد هذه المساعدة.
وفئة في حاجة مستمرة لظروفها الصحية أو الاجتماعية كالمطلقات والأرامل والأيتام والعجزة وأمثالهم. وكثير من هذه الأسر تتوارث الفقر وتبقى في طاحونته ولا تستطيع أن تخرج من دوامته، ولذلك فهي تعيش على المساعدات الدائمة ولا تفكر في الخروج من واقعها هذا وتتأثر أنماط تفكيرها وسلوكها الاستهلاكي والاجتماعي بمستواها المعيشي فتظل في عوز دائم أو ما يطلق عليه بعض الباحثين مصيدة الفقر (Poverty Trap)
وحديثنا هنا عن الحاجة إلى معالجة غير مادية للفقر تدور حول هذه الفئة بالذات. إذ أن المجتمع والجهات الخيرية خاصة حينما تقوم بدعمها ماديًا فهي تؤدي نصف الوظيفة ويبقى النصف الآخر والأهم في الدعم المعنوي عن طريق مساعدة هذه الأسر لتقف على بداية طريق جديد يخرجها من هذه الحاجة المستمرة، وقديمًا قيل لا تعط الفقير سمكة ولكن أعطه سنارة ليصطاد بها. إن العطاء المادي عطاء غير مستدام ولكن التنمية البشرية لهذه الفئة هو سبيل الاستدامة. وإذا كان العطاء المادي أسهل فإن التنمية المعنوية أصعب وتحتاج لجهد وصبر كبيرين. وهنا أدعو الجهات الخيرية ووزارة العمل والتنمية الاجتماعية إلى تبنّي برامج توعوية تنتشل كثيرًا من الأسر المستفيدة من حضيض الفقر والحاجة إلى الاعتماد الذاتي ولقد لحظت جهدًا مشكورًا من الضمان الاجتماعي في الآونة الأخيرة باتجاه هذه الفئة ومساعدتها في الشكل الأوضح من هذا النوع من المساعدة وهو البحث عن فرص وظيفية لأفرادها. ولكن تبقى هذه المعالجة ناقصة إذا لم نستكمل جوانبها الأخرى وسأشير إلى بعضها على أمل أن نجد قريبا برامج تتناولها:
أولًا: تحفيز المحتاجين نحو غد أفضل ورفع معنوياتهم إذ أن الأمل هو الدافع وراء كل النشاط الإنساني، وهذه الفئة تحتاج إلى جرعة كبيرة منه لمساعدتها للنهوض.
ثانيًا: توجيههم ومساعدتهم في البحث عن فرص عمل أو بناء مهارات ذاتية، وكما أشرت فإن هذا الجانب موجود بدرجات متفاوتة وأشكال متعددة في بعض الجهات الخيرية ولكن نحتاج إلى المزيد.
ثالثًا: تطوير مهارات التدبير والاقتصاد وتنبيههم عن سلوكيات الاستهلاك الضارة. أن آفة الاستهلاك تضر بالغني وبالفقير ولكنها بالفقير أكثر ضررًا. نحتاج أن نساعدهم لتحسين نمط استهلاكهم وهي معالجة نفسية وتوعية اقتصادية.
رابعًا: تعريفهم بحقوقهم كشريحة اجتماعية ومساعدتهم في التسجيل والحصول على فوائد من البرامج الحكومية المختلفة. أن السعي للقضاء على الفقر هو أحد الأهداف الإستراتيجية لرؤية المملكة ٢٠٣٠ وهناك العديد من المبادرات التي لا تعرف كيف تستفيد منها.
خامسًا؛ تطوير فهمهم للحياة وتعزيز روح القناعة في نفوسهم. هذا جانب نفسي ديني يحتاجه الجميع وهذه الفئة بالذات. بعض حالات الفقر سببها حب الظهور بمظهر الغني في كل شيء حتى في الكماليات.
سادسًا: حث الأسر في مجتمعنا على تفقد بعضها بعضًا. كثير من الأسر تقوم على رعاية فقرائها وسد حاجتهم قبل أن يمد يده للأباعد.
ما نلاحظه أن كثيرًا من الأسر الفقيرة تضعف فيها العلاقات إلى درجة مؤسفة بحيث يتخلى الأخ عن أخيه والولد عن أبيه وهذا جانب يحتاج من الفعاليات الدينية والاجتماعية التنبيه عليه.
لن نستطيع القضاء على الفقر بشكل كامل ولكن نستطيع أن نقلل من آثاره وضحاياه. هي مهمة الجميع والجميع كل من موقعه يستطيع أن يضيء جانبًا مظلمًا حسب إمكاناته ماديًا ومعنويًا.