أكاد أجزم أننا كلنا قرأنا وسمعنا عن موسى. حكايتهُ حملت ألماً وأملاً كما حملت في طياتها دروساً في النبل والعفة. حكاية موسى (ع) أحكيها لك بتصرف من المفسرينَ والرواة كيف في فصلٍ منها ذاك موسى، القوي الأمين، أعانَ امرأتين ضعيفتين ولم يستقو عليهما وكان من قبل ذلك أعان رجلاً فأصابته تبعاتُ تلك الإعانة. نذكر موسى ونحتاجه أن يعودَ ليعلمنا كيف نحترم المرأةَ ونجل الشيخَ الكبير ونحمي الطفلَ الصغير، في شوارعنا ومدارسنا وأسواقِنا حين لا يملك الضعيفُ حولاً ولا قوة بها يستعين.
اضطر الشاب الطاهر موسى الذي لا يغش أحداً للمشي عدّة أيّام في الطريق مبتعداً عن مصر، الطريق التي لم يتعود المسيرَ فيها من قبل أبداً، ولم يكن له بها معرفة، ويقال إنه اضطرَ إلى أن يمشي في هذا الطريق حافياً في ثمانية أيّام، حتى لقي ما لقيَ من النصبِ والتعب، وَورمت قدماهُ من كثرةِ المشي. كان موسى يقتات من نباتِ الأرض وأوراق الشجر دفعاً لجوعه، حاملاً قلبه المطمئن إلى الله الذي خلّصه من كيدِ الفراعنة. وجاء الفرجُ حين لاحت معالمُ “مدين” من بعيد شيئاً فشيئاً. هدأ قلبُ موسى وأنس لاقترابه من المدينة. ولما اقترب عرف أنّهم أصحاب أغنامٍ وأنعام يجتمعون حولَ الآبارِ ليَسقوا أنعامهم وأَغنامهم.
حركَ مشاعره الرقيقة مشهدُ حفنةٍ من الشبانِ الغلاظ يملأونَ الماءَ ويسقونَ الأغنام، ولا يفسحونَ المجالَ لأحدٍ حتى يفرغوا من أمرهم. بينما هناكَ امرأتان تجلسان في زاويةٍ بعيدةٍ عنهم، وعليهما آثار العفّة والشرف. جاء إليهما موسى وسألهمَا عن سبب جلوسهما هناك؟ فقالت البنتان: إنّهما تنتظران تفرق الناس وأن يسقي الرعاةُ الأقوياء أغنامهم ثم يسقيان هما بعد صدور الرُعاة. ومن أجل ألا يسأل موسى: أليس لكما أب؟ ولماذا رضي بإرسال بناته للسقي مكانه؟ قالتا (وأبونا شيخٌ كبير) فلا هو يستطيع أن يسقي الأغنام، وليس عندنا أخ يعينه على الأمر فلا حيلةً لنا إلاّ أن نؤدي نحن هذا الدور.
تقدم موسى وأخذ الدلوَ بالرغم من تعبِ السير في الطريق والجوع وألقاها في البئر. ملأ الدلوَ وسحبها بنفسه وسقى أغنامَ المرأتين جميعها. غريبٌ جائعٌ ومتعب تولّى موسى إلى الظلِّ وقال: “ربّ إنّي لما أنزلتَ إلى من خيرٍ فقير”. ثم توالت بركات الله على موسى وكان نبياً ومن أولي العزم.
ذلك موسى الذي ألقته أمهُ رضيعاً في يمِّ مصر خوفاً عليه من فرعون ثم نجا وعاد إليها. خرجَ خائفاً يترقب حين أرادَ الظلمةُ أن يقتلوه فنجا. كم نحتاجه اليومَ أن يعودَ إلينا ليعلمنا الأخلاقَ في الطريق وفي المعمل وفي المدرسة وأينما نكون؟ يعود موسى ليعلمنا إذا الهواء حرك ثيابَ امرأةٍ عفيفة وانكشفت كنا نحن الذين نمشي أمامها وهي التي تسير خلفنا في عفةٍ وحياء تدلنا على الطريق!