تباشير فجر، ونسائم صبح، عبير زهر وأنغام فرح، سيمفونية حب وهارمونية ألوان، عزف ثنائي لزوجين يسافران كل يوم للحلم رسماً وللمعنى قيمة سامية فيما يشكلان من فن. الموسى ونتاليا عاشقان يتجليان جمالاً وإبداعاً، يعيشان الفن بالحب والحب بالفن، فنهما حب وحبهما فن، يتنفسان الحب والفن كما الهواء للكائن الحي.
وعن حلم الموسى المؤجل قال: “قبل كل شيء أتمنى أن تكون لدي القدرة الذهنية والقوة العضلية ومزيداً من الطاقة نظراً للتقدم في السن بأن يسعفني الزمن لكي أفرغ كل ما يدور في مخيلتي من مواضيع شتى وأفكار وتصورات كثيرة، لأترجم كل ذلك عبر اللوحات الفنية، وحلمي المؤمل أن يكون لدينا متحف خاص باسمي وباسم زوجتي يحتضن جل أعمالنا الفنية ليكون مثابة تتويج لمسيرتنا التشكيلية”.
مناداة ود وروح ابتسام، وعند مسك الختام قال الموسى: “بدون الرسم أنا إنسان ميت، بالرسم أحيا، ولا أريد أن أعيش موتة الأحياء، مثل الذين يعيشون على هامش الحياة، لا يعملون، لا ينتجون، لا يكافحون، مستسلمون، أقول لكل من يقرأ كلماتي، انفض عن كاهلك غبار الكسل، فالحياة جميلة تستحق أن تعاش، بالعمل، بالمشاركة، بالعطاء، بالسخاء، والأجمل أن تسدي عطاءك بحب لأخيك الإنسان”.
تلك كانت رحلة سفر في حياة الفنان عبد الستار الموسى وزوجته الفنانة نتاليا ريدر، سفر ذو معنى، سفر نحو أحلامهما المشتركة، سفر بكل معاني الحب والوفاء والتضحية.
وقبل أن أغادر مملكة الفنان وقفت أمام لوحة بورتريه متأملًا تعابير وجه طفولي تتراوح بين الابتسامة والجدية، الموسى منهمك في عمله، دنوت منه وفرشاته مشبعة باللون يغمسها حراكاً في تضاريس ملامح صورته القديمة، يتماهى رسماً وتلويناً، ودعاني لأتفرس زمنها المفقود، حيث الأحساء واحة خضراء وأحلام الصبا غضة، إنه ابن الثالثة عشر ربيعاً، كان يختلي في غرفته كثيراً يرسم ويلون ناسياً الدنيا وما فيها، ذات مرة انهالت عليه صفعات من الخلف على الكتف والرأس، توبيخ مفزع وغلظة كلام من أب رحيم يحب مصلحة ابنه ليكون متفوقاً في المدرسة “قايل لك ألف مرة
يا ستاروه، اترك عنك هالشخابيط اللي ما منها فايدة، ذاكر دروسك أنفع لك من تضييع وقتك في هالخرابيط، أروح وآجي وانت على هالحالة، ليش ما طاوعني وتسمع كلامي، وبعدين معاك”.
تبعثرت الأوراق وانسكبت دموع البراءة وامتزجت مع الألوان، قبض الطفل رجلي أبيه، وراح يقبل قدميه، وهو ملقى على الأرض يستعطف أباه بكلام ممزوج بالبكاء وشهيق الأنفاس “يا يبا والله أطاوعك والله أسمع كلامك، أنا أول شيء أذاكر دروسي وأحل واجباتي، وبعدين أرسم وألون، يا يبا أستاذنا قال لي رسمك جداً ممتاز، وفرحت كثيرا، يا يبا أنا أحب الرسم وأحبك أكثر وأكثر”.
مشى الأب خطوات، ثم رجع بدمع العين، والتقط الألوان المتناثرة وأعطاها ولده، وربت على كتفيه ومسح دموعه، “يا ولدي أنا بعد أحبك وأخاف عليك، بس التفت لدروسك حتى تصير ناجح ومتفوق وإن شاء الله تصير طبيب أو أستاذ، يا ولدي ترى العلم يحرسك، وبالغين فيك يا ستاري يا شيخ الرجاجيل، وريني كراستك اشوف، أوه ما شاء الله رسمك كلش زين، زان حظك يا ولدي، وإن شاء الله بتصير رسام، ورسام كبير”، آهات عزيزة من أب هو فنان في تطريز وحياكة البشوت ومشغولات الذهب، صدى كلماته تصدح أرجاء الدار، “ستار ولدي رسام، رسام، رسام، فنان، فنان”، دعوة أب مستجابة لم تزل حية في نفس وروح وكيان عبد الستار علي الموسى.
إن بعض اللوحات مداراة لجراح قديمة والرسم نزف وعزف وذاكرة مضطهدة، سلو الألوان المختبئة في ثنايا التكوين تنبئكم عن مسيرة فنان لم يهدأ له بال منذ 50 عاماً وأكثر، ريشته مغموسة من عبق البيئة، ومن عمق الأوجاع ومسرات الأفراح، ترانيم ذاكرة مفجوعة لضياع الأثر تلو الأثر، مراثي لونية لاختفاء مشاهد الطيبة والأحلام البكر، تعبيرات تلامس شغاف القلب، وتطرح اشتعال الأسئلة، تلوذ بما وراء الصمت تناجي الأطياف ومواويل العشاق المهاجرة.
العالقون في الأسفار كالمضطجعين على نار هادئة،
يتعذبون دون ألم، ويستلذون بالحلم والرسم ذي المعنى، والإبداع ضالة كل مؤمن بقيم الفن الأصيلة.
٣٥ حلقة تتابعت ولسان حالها يتنهد: “وكأن رواية الأشواق، عود على بدء وما كمل الكتاب”، ومعها تراسلت الأسئلة في فضاء الاستجواب، وتشظت الأجوبة في ماء الكلمات، والسيرة الذاتية ظمأ وفيض بارتواء الذاكرة، أحصنة الفن حملت الأمكنة على صهوات الجياد، وطافت بها خارج حدود الأزمنة، لتستأنس حلماً في الوجدان وسحراً أمام مرايا الأرواح المتقابلة، قائلة: ما أنت إلا سفر عمرك.