من فيض الزهراء (ع)

ورد عن الزهراء (ع): من أصعد إلى الله خالص عبادته، أهبط الله عزّ وجل إليه أفضل مصلحته (تنبيه الخواطر ج ٢ ص ١٠٨).

ما أعظم المدرسة الفكرية التي تتلألأ فيها كنوز الحكمة والمواعظ والتوجيهات، ومن تلك التنبيهات الإشارة إلى أهمية الإخلاص في أي عمل يأتيه الإنسان، وذلك أن الشيطان الرجيم لا يكل من محاربة العبد وإن توجه لمحراب العبادة، فمن مداخله هو إفساد النية وإدخال الشوائب فيها؛ لتكون صورة خاوية لا تؤثر في مسير العبد نحو القرب من الله تعالى والأنس بذكره والثقة بتدبيره لأمور عباده، فإن تلك المراتب العالية التي حازها أولياء الله تعالى إنما كانت لعامل مهم ألا وهو الإخلاص في طلب رضا المعبود، فلم يكن يداخلهم فيما يصدر منهم تحقيق أي مصلحة خاصة يصيبون بها الوجاهة السرابية.

العبادة بمفهومها الشامل لكل ما يصدر من الإنسان من كلام أو سلوك ولا تختص بالفرائض كالصلاة والصوم، فقد تكون نصيحة الغير كلمة صادقة لا خدش فيها، ولكن مراده منها هو التزلف إلى هذا الشخص، وقد يتصدق ليسد حاجة بسيطة للفقير ولكن نيته إنما كانت لتسليط الأضواء على فعله فيكون مثار حديث ومديح بين الناس، وقد يتظاهر بصلة الأرحام ولكن نيته كانت لبث فتنة أو شائعة، وهكذا تتعدد الصور للأعمال المبطنة بنية سيئة أو الرياء الذي يفسد العمل ويجعله هباء منثورا، فالإخلاص لله تعالى وطلب رضاه يتنافى مع أي مشوبة طلب مصلحة دنيوية يتباهى فيها بمكانته وتنتفخ نفسه المريضة بلوك الألسن لفعله والثناء عليه.

مولاتنا الزهراء (ع) تؤكد على قيمة مهمة لأي عمل صالح وتشكل قوامه وجوهره ألا وهي نية الإخلاص لله تعالى، فليس هناك من دافع ومحرك للنفس وباعث لقواها نحو إيجاد العمل على أرض الواقع سوى رضا المعبود ونيل القرب منه تعالى، فالإخلاص هو ما يعطي للعمل من قيمة عالية وذلك لما يتضمنه من مضامين عالية متعددة، فهو ومضة معرفية توحيدية تضع الفكر الواعي على سكة البحث عن الجمال الإلهي وتعظيم شأنه سبحانه، كما أنه يفرغ العقل من الأوهام السرابية بالبحث عن مكانة عند الناس على حساب آخرته، فلا المرائي بالذي هو يحقق ذلك دنيويا إذ ينظر هؤلاء إليه بعين الريبة والتقزيم، فهو في نظرهم ليس إلا أفاك انتهازي يبحث عن مصالحه وتعميقها بالتلميع والتلون الاجتماعي، ولا هو بالذي يقدم يوم القيامة وقد رجحت كفة أعماله، فالأعمال الريائية لا قيمة لها وتتناثر لأن المثيب رب العالمين الذي غفل هذا المرائي عن عظمته فينساه المولى الجليل من رحمته الواسعة في ذاك اليوم.

المخلصون ينالون الثمرة اليانعة في الدنيا بتحقيق وجودهم في أعلى درجات الكمال والسمو الروحي، فيتحرر المخلص من أغلال حب الذات السلبي، إذ يخسر المرائي نفسه من أجل سراب يجري خلفه وهو الوجاهة والثناء على ألسنة الناس، وهي دنيا زائلة وستكون النهاية للمخلص والمرائي هي سكنى حفر المقابر، مع فارق وهو أن المخلص حقق عبوديته للواحد القهار وجعل توجهه نحو من يستحق العبادة، فأورثه ذلك حكمة على لسانه واستقامة في سلوكه، وهذا لا يعني أن الشيطان الرجيم لا يزين للإنسان طريق الرياء حتى يحرفه عن جادة الطريق، ولذا فإن الإخلاص محاسبة مستمرة للنفس ومجاهدة للأهواء حتى يخلص كل عمل منه من الشوائب والنوازع النفسية.

ومما يقوي النفس في طريق التهذيب الأخلاقي هو القراءة المتمعنة في سيرة أولياء الله تعالى الذين عمروا الدنيا بإخلاصهم لله تعالى، لا يرجون لما قدموا من عطاء فياض أزهرت به دنيانا، فإحدى الإشارات المهمة هو ما ذكره القرآن الكريم في آية الإطعام في سورة الإنسان، حيث آثر أهل بيت الزهراء (ع) بطعامهم دون رجاء إثابة من أحد فقد روتهم يد الكرم الإلهي وغمرتهم، وأنى الغرابة من الإيثار والزهراء (ع) الكوثر الذي لا ينضب من العطاء المخلص لله تعالى.


error: المحتوي محمي