في أولِ حادثةِ حسدٍ وغيرة عرفها التاريخ جرت الأحداث كالتالي:اغتاظَ أخٌ من أخيه فاتفقا أنْ يقرِّب كلٌ منهما قرباناً لله تعالى، فمن أحرقت النارُ قربانه فهو الأحظى عند الله جلَّ وعلا، وحين وجدَ أحدهما أن النارَ قد أحرقت قربانَ أخيه اشتدَّ حنقه عليه وحسده ثم بغى عليه فقتله. هذه كانت بداية تاريخ الحسد الذي صار يحمل اسماً جميلاً اليوم. لم يعد القتل الجسدي في عصر التمدن بالضرورة هو النتيجة المحتومة للغيرة، ويبقى من لا يستطيع أن يغتال الجسد يستطيع أن يغتال الفكر الذي قد يكون أنفع للمجتمع!
مبدأ “التنافس” اليوم يقوم على أساس “عدو المرءِ من يعمل عمله”. فإن لم أكن أنا الأفضل والمتميز فالطوفان والنار للجميع! جمعيةُ الغيرة بعدما كانت محجوزةً للجهلة، انضم لها كلُّ أرباب المهن من الكسبةِ بكل أصنافهم ولا تقف إلا في أعماق كل المفكرين والمنظرين والعلماء والكتَّاب الذين يرون فكرهم الأسمى والأرقى وخطهم الأجمل والأبدع!
تكلفة الانضمام لهذه الجمعية البدائية هي المشاركة الفعالة في قتلِ واغتيال فكر المفكر، ومن الجيد إن استطاع المشترك أن يستخدم فكراً أكثرَ رداءة وأقل فائدة من الفكر الذي يغتاله كأداةٍ للقتل. أعضاء جمعيات قتل الفكر والإبداع يحتاجون غرباناً تعلمهم كيف يوارون سَوْءاتهم وليس سَوْءات أخوتهم المقتولين. حيث إن الغربان يوجد فيها من الفكر ما يكفي أن تسمحَ لبعضها بالإبداع والتفوق وتذليل الصعاب حتى إنها هي التي علمت الإنسان في أول حادثةِ قتل كيف يواري سوءة أخيه!
المنافسة الحق أن يمتطي الفارسُ الخيل العربي ويسبق الفرسان، لا أن ينحر خيولهم. وأن يزرعَ حقولَ العقولِ الجرداء بسنابل الفكر لا أن يدوسَ الحقولَ المزروعة ويقتلع زرعها ويزرع بدلاً منه العشب. وكما جاءَ في وصايا الله لعيسى (ْع): “يَا عِيسَى نَافِسْ فِي الْخَيْرِ جُهْدَكَ لِتُعْرَفَ بِالْخَيْرِ حَيْثُمَا تَوَجَّهْتَ”. هذا هو المضمار والسبقة لمن فاز والغاية لمن خسر!
ما ضر عامل الأرض “قابيل” لو كان قدَّم قرباناً وزرعاً أفضل مما قربهُ للهِ تعالى، ثم قال لأخيه راعي الغنم “هابيل” الذي قدمَ أسمنَ كباشه: تعال يا أخي لنحيا معاً. تعال يا هابيل علمني لكي لا يصرخَ دمكَ ويفور من الأرض! ملعونةٌ تلك الأرض التي فتحت فاها لتقبلَ دمَ أخٍ من يدِ أخيه. ما ضرَّ إخوة يوسف لو تركوه حيَّا سالماً معافى في بلادِ كنعان ولم يلقوه في الجب، ولم يقض سنين في سجن الغربة بمصر؟
أكاد أجزم أن الأخوةَ لم يعلموا أن من حسدوه سوف يكون أعلى درجةً أو درجاتٍ منهم ولم يعلم قابيل أن الغيرةَ والحسد هما مفتاح كل الخطايا!