عثرت على قصة كتبتها في دفتر التعبير، وأنا في المرحلة المتوسطة، وأجمل ما شدني فيها مشاعر عميقة، وكلمات تعبر عن آية الطهر ونقاء القلب فالقلب حرم الله ولا يدخل حرم الله إلا من استعدّ، وتوضأ للوقوف بين يدي الله تعالى…
وهناك كلمة تكررت بين السطور وهي “وردية” فرغم أن القصة لم تتجاوز صفحتين في الدفتر، إلا أن القصة بهرتني فهناك صورة محفورة في أعماقي وما تزال معلقه بين جوانب نفسي لهذا اليوم، وهكذا بدأت حكايتي:
أسير وحدي بين أشجار متشابكة عالية جدًا، قطرات المطر بللت معطفي الأزرق وقبعتي الوردية، كانت السماء مكسوة بخطوط زرقاء وأخرى وردية، الغيوم تكتسح الفضاء بوشاح من القطن الأبيض، تضئ منه ذرات وردية، وأخرى فضية.
الشمس هناك، تختبئ خلف الغيوم على استحياء، توهمت حينها أن الأشجار، كانت تمشي بجواري، وتتساقط منها أوراق خضراء وردية، أنا الفراشة أحلق بانطلاق وسعادة، أفتح ذراعيّ في الفضاء، كطائر يعانق الحرية، وفي لحظة خاطفة لمحت ظلًا من بعيد، إنها امرأة فارعة الطول بشرتها برونزية، ترتدي فستانًا من الفيروز الأزرق المرصع بأحجار فضية، اقتربت مني، سلمت عليها وابتسامتها المشرقة أضاءت خدودها الوردية، تملّكني شعور بالخوف لوهلة، لكن ابتسامتها أذابت كل المشاعر السلبية، مسكتني من ذراعي، وقالت: هيا لنمضي معًا، سألتها ولكن من تكونين؟ أجابتني بأنها أميرة من بلاد الحرائر الوردية، الغريب أنني شعرت بخفة، وأنا أمشي معها، كطائر، يحلق في الأعالي بين الأشجار والبحيرات التركوازية، لوحة كحلت عيني بآيات الجمال، عزفت لحن فنان عاشق ترقص ألوانه بين الحقول الوردية، ألحانها الحب، وقصة الإنسان الأزلية.
أخيرًا..، وصلنا إلى بوابة ضخمة تتسربل فيها الألوان، وتبرق ذهبية وفضية، ولآلئّ وردية، توقفت رفيقتي عند شجرة الرمان، أوراقها من المرجان، تتوسط منسوب مياه، تتناثر فيها الأصداف والزهور، سألتها متعجبة ما هذا المكان؟! أجابتني بأنه واد اللؤلؤ والمرجان، وعصا موسى السحرية بداخل ذلك الكهف هناك، كنت فيض مشاعر توهجت من نور تلك المرأة، اقتربت من ذلك النهر، أغترف من مياهه العذبة، لمحت من بعيد أوراقًا صغيرة، تخرج بين الأصداف يتوسطها وردة أرجوانية اللون، أوراقها مخملية، سرقت قلبي بنظرة، نسيت الاغتراف من ماء النهر، رفيقتي، كأنها قرأت أفكاري، تقدمت خطوة، قطفت الوردة وقدمتها لي، بابتسامة أضاءت سعادة، كان عميق شكري، استنشقت بعمق رائحة هذه الوردة الزكية، أغلقت عيناي برهة نشوة، فتحتها لم أجد رفيقتي، بحثت عنها في كل مكان راودني شعور بالخوف، كلما نظرت إلى وردتي المخملية غمرني الأمان من جديد، مضيت أمشي حتى وصلت إلى مكان عجيب مهيب متشابكة أشجاره، والطيور صفوف على حبائل وردية، ملكتني الرهبة، ظل رفيقتي ها هو من بعيد، سابقت خطواتي، اقتربت منها، فإذا بي عند ضفة نهر عال ومياه النهر تطرب المكان بألحان الطبيعة الغنّاء، لكنه لحنٍ حزين، سألتها افتقدتك كثيرًا يا رفيقتي، يالروعة هذا المكان، وهيبته العجيبة، أومأت برأسها، دموعها سيل حزين، وبصوت خافت، هنا الوادي الحزين، التفت يمينًا ويسارًا، إنها مصابيح معلقة في كل مكان، تتلألأ كحبات اللؤلؤ، شموع وردية، تصطف متناسقة مع أوراق الشجر، نهاية الطريق سيل عميق، مياه الياقوت الأزرق، تفترش الأرض الخضراء، وأحجارها الوردية، عرش مهيب ضخم، يتوسط ذلك الوادي، طيور مختلفة الأشكال والألوان، أنغام حزينة زقزقتها، تخترق القلب، وتعزف ترانيم مشاعر أسطورية، ما قصة هذا الجمال، هذا المكان يا رفيقتي، ويا أميرة الحرائر الوردية، دموعها، ترقص بين عينيها بانكسار، جاوبتني، إنها حواء ومريم العذراء وفاطمة الزهراء وبضعتها الحوراء، إنسانية مرهفة، مرهقة لسعتها حية رقطاء، مزقت دماء هابيل ورُفع قسم في أعالي السماء باللعنة على قابيل، تمتمت حديثها بصوت حزين خافت: كربلاء وما أدراك ما كربلاء، حملتني بكلامها من عالم الأحلام إلى أوجاع أرهقتني عن المسير سقطت على الأرض في ذهول من عذوبة هذا المكان وأسراره، ذرفت الدموع، ونسيت وردتي المخملية، التي تدحرجت إلى ذلك النهر المنحدر من الوادي، آه ما أعذبك يا وردتي، وأنت تسبحين بين الأوراق، آه فقدتك، تمتمت بالبكاء، فإذا بيد تربت على كتفي، مسحت دموعي، وبين يديها إكليل الياسمين المرصع بالياقوت واللآلئ الوردية، وقالت: هذه هديتي لك يا زهراء، تحفة جميلة من بلاد الحرائر الوردية، مضينا معًا إلى نهاية الطريق، من بعيد تشرق قبة من نور، تخطف الأبصار، سمعتها تنادي: “وأشرقت الأرض بنور ربها”، هنا الوعد الموعود هنا شاهدٍ وشهود، وامتلأت السماء بنور ساطع لسعتني بنورها لأصحو من النوم.
وأكثر ما أدهشني في هذه القصة، التي كتبتها أكثر من عشرين عامًا، كتبت عنوانها “إنني أبحث عن وردتي المخملية في أعماقي”، وعجيب في هذا السن حضور سيدة عانقت خيالي، كقطعة حرير لفت عالمي، إنها وردتي المخملية شذى فطرة الجمال، وفطرة الإنسان، ومقولة سمعتها وأنا صغيرة: “نحن خلقنا من الجنة وإليها سنعود”.