ورد عن الإمام الصادق (ع): “إياكم والخصومة، فإنها تشغل القلب، وتورث النفاق، وتكسب الضغائن” (بحار الأنوار ج ٢ ص ١٢٨).
الخصومات وما أدراك ما الخصومات، إنها انزلاق سريع نحو هاوية اعتلال النفس والخسارة في اتجاهات متعددة – كما أشار الإمام الصادق (ع) إلى ذلك -، فمن فهم حقيقة الدخول في معارك واحتكاكات يومية يسجرها بانفعالاته وما تخلفه من تأثيرات سلبية على مجريات حياته، فبالتأكيد سيعيد حساباته ويتوقى بكل وسيلة تعريض حياته لخطر التوترات الاجتماعية، إذ لا يجني منها إلا ضغوطًا نفسية وقلقًا يلف بها يومياته فلا ينعتق منها أبداً، كما تحول المرء إلى انتهازي مخادع يحاول بكل طريقة إيذاء من يخاصمه – وما أكثرهم -، ويمزق أثواب علاقاته مع الآخرين ويعريها من أي ود واحترام وتفاهم.
مع اختلاف الأمزجة وتنوع النفسيات بين صعبة وسهلة لا يمكننا إنكار وقوع الاحتكاك وسوء الفهم بين الناس، ولكن العلاج لمثل هذه الخلافات لا يكون بالمشاحنات والشجار والخصومة واستعداء الآخرين، وإنما يتحصل الاستقرار والهدوء النفسي للجميع من خلال تقدير شخصية الغير واحترام وجوده، وتفهم ما يمر به الآخر من ظروف صعبة وضغوطات الحياة التي تؤثر سلبًا على نفسيته، وتغليب الراحة النفسية على الدخول في المعارك الجانبية بسبب المواقف الخشنة مع الغير، وذلك بتطبيق التسامح والتغافل عن صغائر الأمور وتفريغ النفس من تكتل الهموم وثقلها، كما أن الخصومات تشكل مانعاً من اندفاع المرء نحو تحقيق أهدافه وشق طريقه نحو الإنجاز والنجاح، فهذه الخلافات تستنزف طاقته النفسية وتستنفذ جهده ووقته في صراع طويل ومرير لا يجني منه إلا الشقاء والتعب.
وآه من تمكّن فيروس التشفي والانتقام ممن ينشأ معهم نزاع أو خلاف، فيندفع بقوة الشر والعدوان نحو أذية من يبغضهم ومحاولة إيصال كل أشكال الألم إليهم، فمن كان هذا همه ومبتغاه وشغله الشاغل أقحم نفسه في نار الكراهية التي تحرق صاحبها قبل غيره، وسلبته الراحة والطمأنينة وحولت حياته إلى كابوس مخيف اسمه الخصومات المتأججة، إذ لا يدخر وسعا في سبيل الوصول إلى تشفي قلبه الأسود حينئذ بكل وسائل الضرر، فلا يهدأ له حال حتى يصل إلى هدفه الخبيث ولو كان الثمن لذلك تشويه صورة الغير واستخدام وسائل الكذب وبث الشائعات والتلون الاجتماعي (النفاق)، فهمه الحط من مكانة من يخاصمه وإسقاطه من أعين الناس وتمريغ سمعته في الوحل، ولا يخفى اليوم دور الاستعمال الخاطئ لوسائل التواصل الاجتماعي – وهي في الحقيقة تشويه اجتماعي عند هؤلاء – في تسعير الخصومات وتحويلها لمعارك طاحنة يشرع فيها حربة الانتهازية واستخدام وسائل المكر والخداع.
وكفانا ما نراه اليوم من تأجيج لنيران الكراهية والأحقاد بسبب تضخيم وتحويل أي خلاف أو سوء فهم إلى خصومات ومقاطعة، حتى تحولت العلاقات عند البعض إلى ترهل و ضعف غير مسبوق على المستوى الأسري والاجتماعي، بل ولا يخجل بعضهم من الفيروسات الأخلاقية التي أصيب بها، فأضحى الجفاء وتجاهل وجود من يختلف معه وإساءة الأدب في التعامل معه وسائل مشروعة يدافع بها عن وجوده – كما يزعم -، بل ويعمل جاهدًا على التحريض وتكالب الآخرين على خصمه لعل نفسه المريضة تشفى من غلها، وما أبعدها عن ذلك، فليس له من هم وتطلع في جلساته ونقاشاته إلا توجيه حرابه نحو انتقاص من يدخل معهم في خصومات، فلا تهدأ نفسه حتى يرى دخان الحقد يتصاعد من كل جلسة يحضرها.
وهذا النفس والنوع من التأجيج الانفعالي والسقوط الاجتماعي بلا شك ينعكس وجوده الأسود على مجمل العلاقات، فروح الخصومة والمشاركة في حلبة المصارعة تعد عاملًا مدمرًا لعلاقة الزوجين وطريقة خاطئة لمعالجة أي خلاف بينهما، فبدلًا من اتخاذ التفكير الإطفائي لأي مشكلة، ومحاولة احتوائها وتبريدها بالاعتذار والتسامح والمعالجة الممكنة، يحاول أحد الطرفين أو كلاهما الهروب نحو الأمام بالانتقال بالخلاف نحو حلبة الصراع والمشاحنات، والنتيجة المؤلمة هذا الكم الكبير من قضايا الخلافات الزوجية وحالات الانفصال لأسباب غير منطقية، إذ لو كان الشاب والفتاة يحملان ثقافة الهدوء النفسي وتجنب الخصومات والتوترات في علاقتهما لاتّجها نحو المعالجة السريعة لأي خلاف بدلًا من الانفعالات المنتهية بالخصومات.