في البدء أرى لزاماً عليّ أن أشير إلى الدور الذي تقوم به الأجهزة المسؤولة عن مراقبة الأسواق، والجهود المضاعفة بكل ما له ارتباط وثيق بصحة الناس، أتمنى لهم المزيد من التقدم والازدهار لكل ما فيه خير هذا البلد المعطاء.
إيماناً منا بأهمية القضية وعلاقتها المباشرة بصحة الناس وسلامتهم، أود أن أوضح في هذه المقالة عدداً من الحقائق من منطلق المسألة الوطنية، والحرص على سلامة المستهلك، وكذلك المساهمة في نشر الوعي الصحي.
رغم معرفتنا بأن طرح مثل هذه القضية عبر الإعلام أو قنوات التواصل الاجتماعي، قد تثير الذعر والتخوفات بين الناس، إلا أن حديثي سيأخذ الجانب الموضوعي بحكم أن الذعر هو في عدم توضيح الحقيقة، وخصوصاً حينما تكون القضية تمس صحة المستهلك بصورة مباشرة.
وددت لو نجعلها وإياك أيها القارئ العزيز تلك المقدمة مدخلاً للمقالة التي تتصل بسلامة اللحوم وجودتها، وكشف أسرارها وطلاسمها، وخصوصاً لحوم الأبقار المتداولة في أسواقنا.
اللحم الأحمر عندنا مهم جداً وله خصوصية في حياتنا، ندرك قيمته الغذائية، فهو يمدنا بالبروتينات، والدهون، والفيتامينات، والأملاح المعدنية، ويجعلنا قادرين على مواصلة عملنا الجسماني والذهني بنشاط، ولا تخلو مائدة من موائدنا منه، فهو سيد الأكلات السعودية، نراه في الحفلات والمناسبات الاجتماعية، والعزائم لا تكتمل إلا به فهو عريس السفرة، ونحن لا نستطيع أن نستغني عنه، ولا أتصور أن يمر يوم دون أكله على أي صورة.
أعتقد أن إقبالنا على تناول اللحم هو حاجة وعادة غذائية راسخة في مجتمعنا، ويعتبرونه أكثر فائدة من الناحية الصحية، يمكن لأننا نفضل دائماً الطعام الدسم المتكامل، فهو يعطي الطعام مذاق ونكهة مميزتين.
إن الإفراط في تناول اللحوم يؤدي لوقوع صاحبه في مشكلات صحية، فهو لا يسبب السمنة أو السكري أو أمراض القلب عندما نتناوله بصورة طبيعية، لكن المشكلة في أننا نأكل اللحم بكميات كبيرة جداً.
ليس هناك أدنى شك في أن صحة المستهلك، تعتبر الهدف الأساسي والأهم الذي يتكاتف الجميع من أجله، وتعتبر اللحوم أحد أهم العوامل التي تلعب دوراً أساسياً في صحة المستهلك وسلامته.
واللحوم الحمراء من الأغذية ذات الطعم المستساغ، إضافة إلى قيمتها الغذائية العالية، لكونها تحتوي على المكونات الغذائية الأساسية، كما أنها من المواد الغذائية سريعة الفساد إذا ما قورنت بالعديد من المواد الغذائية الأخرى.
إن سلامة اللحوم وصلاحيتها للاستهلاك الآدمي تؤثر فيها عوامل كثيرة، والذي يهمنا الأدوية البيطرية، والإضافات العلفية، والهرمونات، التي تتركز آثارها في حليب ولحوم الحيوان وتنتقل إلى الإنسان بعد ذبحها، وتسبب له الكثير من الأمراض.
إن لثورة التقنيات الحديثة ضريبة يدفعها الإنسان من صحته وحياته، وما تقنيات زيادة توفير الغذاء وحفظه إلا مفردات لهذه الثورة، وتتجاذب الضريبة التي يدفعها الإنسان من صحته، من هذه التقنيات عوامل عدة، فهناك المواد الكيميائية المستخدمة، وهناك سوء الاستخدام، وهناك سوء الاستهلاك وغيرها، ومع تكاثر هذه العوامل وتداخلها بل وتكالبها على أفكارنا أصبحنا في حيرة من أمرنا، ماذا نصدق وماذا نكذب؟ ماذا نأخذ وماذا نترك؟! فمن قائل بأن المضافات الغذائية والعلفية خطرة على صحة الإنسان، إلى منتقل بالخطورة إلى المضادات الحيوية والهرمونات التي تعطى إلى حيوانات المزرعة، إلى قائل بأن بقايا تلك الملوثات هي الأخطر، ومن مؤكد أنها تدمر الكبد، والكلى، وتسبب السرطان.
لزيادة الإنتاج ومواجهة العديد من التحديات كالمعالجة المرضية والوقائية، لجأ أصحاب المشاريع الزراعية إلى استخدام الأدوية البيطرية والمضادات الحيوية ومحفزات للنمو في تغذية الحيوان على نطاق واسع، وأضيفت بجرعات دون العلاجية وكان لها الفضل لزيادة معدلات النمو وتحسين كفاءة التحويل الغذائي، واكتشفت مع الوقت التأثيرات الضارة على صحة الإنسان.
ونتيجة لذلك ظهرت العديد من المناشدات من منظمة الصحة العالمية، واللوائح التي تنفذ بالفعل الآن بالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة للحد من استخدام المضادات الحيوية ومنشطات النمو لحيوانات المزرعة؛ من تقليل ظهور بكتيريا مقاومة للمضادات الحيوية المسؤولة عن الإصابات التي يصعب علاجها، والأضرار التي تشكل مصدر قلق كبيراً للمستهلكين.
• حجم استهلاك السوق السعودية من اللحوم الحمراء يشكل ٤٠٪ من الإنتاج المحلي، جزء كبير منه يغطى من مشاريع الألبان، وبقية النسبة يتم توفيرها من الأسواق الخارجية.
تعد العقاقير البيطرية أمراً ضرورياً في صناعة الألبان الحديثة، نظراً لأن المستحضر يحارب الأمراض ويحمي الحيوانات من العدوى، بالإضافة إلى ذلك يمكن أن يساعد على النمو وزيادة الإنتاج، لكنها قد تكون خطرة إذا لم يتم معالجتها بشكل صحيح؛ ومع عدم وجود الرقابة الذاتية والأمانة، يمكن أن تبقى العديد من الادوية في الحليب أو اللحم لبعض الوقت بعد العلاج، هذه البقايا قد تكون ضارة للناس.
من أجل حماية المستهلك ولكن مع السماح باستخدام العقاقير، وضعت هيئة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) قيودًا دقيقة على بقايا العقاقير البيطرية التي قد تكون موجودة في لحوم حيوانات المزرعة، وفي بعض الحالات لا يسمح حتى بالبقايا، لذلك يتبع مزارعو مشاريع الألبان التعليمات عن كثب عند تعاطي العقارات لتفادي البقايا غير القانونية من الأدوية البيطرية، حتى لو كانت كمية صغيرة جداً فهي تنتهك قوانين العقاقير الفيدرالية.
توجد سوق ناشطة يتم فيها بيع الأبقار المستهلكة في مشاريع الألبان والتي قل إنتاجها من الحليب وأصبحت دون جدوى اقتصادية في بقائها ضمن القطيع، يقبل على السوق مجموعة من المستثمرين في قطاع اللحوم لشرائها، ومن ثم بيعها لتجار التجزئة أو تمول بها المطاعم والمطابخ وبأسعار مغرية، هذه النوعية من اللحوم ليست كاللحوم الأخرى، هي أقل جودة وقد تحمل أخطاراً صحية بسبب تواجد بقايا المضادات الحيوية والهرمونات التي أعطيت لها أثناء التربية والإنتاج.
لنا وقفة أمام خطر بقايا المضادات الحيوية والهرمونات والأدوية البيطرية على اللحوم قد تصدم نتائجها ما هو واقع علمي في موضوع الملوثات، والزمن المناسب الذي نأكل بعده لحوم الأبقار الحلوب، نحن هنا لا نريد أن نخيف أحداً، بل بالعكس نرغب أن نضع الحقائق مما يبعث على الاطمئنان فيما نأكل ونشرب.
كنت أتمنى أن الأمر لا يزال يخضع للتخمين، لكن يبدو أنه تجاوز التخمين ليصبح صحيحاً.
كان لزاماً على الجهات المعنية أن تضع حداً أو تشريعاً يحكم تداول مثل هذه اللحوم والتي هي من مخلفات مشاريع الألبان لكون الأبقار استهلكت في إنتاج الحليب، ولا يسمح بتسويقها، أو استهلاكها، أو تصنيعها إلا بعد فترة التحريم اللازمة للتخلص من بقايا الأدوية البيطرية في لحومها لضمان حماية المستهلك.
فترة التحريم: هي الفترة الزمنية من آخر جرعة من العقار أعطيت للحيوان حتى وقت انسحاب الدواء من جسم الحيوان.
• وقت الانسحاب (طول الفترة الزمنية التي يجب فيها حجب اللبن أو اللحوم عن السوق بعد آخر علاج باستخدام عقار دواء).
GSO CAC/MISC 5:2013
مخلفات العقاقير البيطرية في الأغذية. بند.28 مدة الانتظار ومدة الحجز.
وخلال هذه الفترة لا يسمح باستخدام منتجات الحيوان كاللحم والحليب.
نتعرف على فترة التحريم أو أوقات الانسحاب من بطاقة أو دليل استخدام الأدوية البيطرية، وتشمل المضادات الحيوية وبقية الأدوية البيطرية، بينما الهرمونات أو محفزات النمو من المواد المحظورة استخدامها دولياً في تشجيع نمو وزيادة إنتاجية حيوانات المزرعة، لكونها من الملوثات التي تبقى في اللحوم والحليب ولا يمكن التخلص منها بأي شكل من الأشكال.
انخفاض المتبقيات أثناء فترات الانسحاب يعتمد على مصدر العلف النظيف الخالي من الأدوية المعالجة. عندما تتمكن الحيوانات الزراعية من تناول مثل هذه الأعلاف؛ نكون قد تخلصنا من المواد الضارة بالصحة.
بعد انتهاء فترة التحريم يمكن الاستفادة من لحم الحيوان ومنتجاته بشرط فحصها مخبرياً للتأكد من خلوها من أي متبقيات ضارة بالصحة.
والهيئة العامة للغذاء والدواء لديها طرائق حديثة للكشف عن الهرمونات والمضادات الحيوية، ونحن نرى في هذه الحالة إلزام مشاريع الألبان استخراج شهادة صحية موثقة للأبقار الحلوب المستهلكة، والذي يرغب أصحابها بيعها في المزاد، لضمان خلوها من بقايا تلك الملوثات، وتكون وثيقة رسمية تسمح بموجبها تداول تلك اللحوم في الأسواق، مما يعطي دلالة واضحة واطمئنان بخلوها من الأدوية البيطرية والملوثات، وسلامة صحة المستهلك.
SFDA.FD 2481:2019
الحدود القصوى المسموح بها من بقايا الأدوية البيطرية في الأغذية.
عادة ما تعطى العقاقير البيطرية فقط للحيوانات الجافة أو حيوانات الألبان الصغيرة، بينما البقرة الحلوب تبقى بقايا تلك العقاقير في الحليب.
يجب توخي الحذر من أن البقرة الحلوب التي تتغذى على أي أعلاف دوائية، قد تكون مسؤولة عن بقايا العقاقير غير القانونية، وفي فترة العلاج يجب حجب الحليب أو اللحم عن السوق.
يلزم قراءة ملصق الدواء بعناية، والالتزام بتطبيق التعليمات المدونة عليه، والتي تتضمن وقت انسحاب الدواء، وقد يكون خطراً في حالة استخدامه الخاطئ، وتأكد من أنك تقوم بحساب متبقيات العقار قبل الذبح، أو سحب الحليب والتخلص منه، ومن انقضاء فترة سريان الدواء.
للتخلص من بقايا الأدوية البيطرية وما تحمله الأبقار من ملوثات يتم عزلها، وتغذيتها بأعلاف خضراء لفترة الانسحاب مع التوقف عن تغذية الحيوانات بالأعلاف المخلوطة بمشتقات حيوانية.
ويلزم من أصحاب مشاريع الألبان التوقف عن بيع أبقار للذبح قبل نهاية فترة الانسحاب ومن يخالف ذلك الإجراء يعتبر منتهكاً للقوانين والتشريعات المحلية والدولية، وقبل ذلك تعتبر جريمة نكراء لا يرتضيها ديننا الحنيف وتمقتها المبادئ والأخلاق الفاضلة، وهي تعمد إلحاق الضرر بالآخرين.
ولكن يبدو أن الموضوع الآن أصبح في يد المستثمرين وتجار اللحوم.
هل أن هؤلاء في قرارهم بأنه لا ضرر منظور من استخدام هذه النوعية من اللحوم المليئة بالعقاقير والمضادات الحيوية والهرمونات!!
زاد توجه تجار اللحوم والمستثمرين المحليين في الاستثمار التجاري في هذه النوعية من اللحوم.
أغلب اللحوم المستهلكة في منطقتنا وخصوصاً المطاعم ومراكز التموين من ذاك المصدر.
عرض مثل هذه النوعية من اللحوم في الأسواق بأسعار مخفضة يجعل الإقبال عليها شديداً، لحوم رخيصة الثمن، ووفيرة على حساب الجودة والمأمونية، وقد امتلأت أسواقنا بها، هي لحوم نشكك في صلاحيتها.
المخيف في الأمر أن الأبقار تعطى المضاد الحيوي وتذبح في الوقت نفسه، وبذلك يكون التركيز فيها عالياً، مع جهلنا بما يضاف إلى علائق حيوانات المزرعة، وقد تكون محتوية على مواد ضارة.
على أننا بعد هذا كله لا نستطيع ان نستمر في دوامة الخطأ.
إن الاستهلاك المتراكم لهذه المضادات ومحفزات النمو والإضافات الغريبة، يعني أن هناك أخطاراً عالية للإصابة بالسرطان تصاحب هذا الاستهلاك العالي.
وقد أصدرت الهيئة العامة للغذاء والدواء لائحة تنظيم للمنتجات العلفية (SFDA. FD /2017 المواد العلفية المسموح والمحظور استخدامها في الأعلاف).
من واجب المتخصصين في مجال البيطرة والمراقبين الصحيين التأكد من سلامة الأبقار وخلوها من أي ملوثات والكشف على لحومها بعد الذبح لتقرير صلاحيتها للاستهلاك الآدمي، ويتعين فقط الاعتماد على نتائج الفحص المخبري.
ونحن نسأل هل قلة الوعي أم الضمير الضعيف لدى غالبية تجار اللحوم وأصحاب المطاعم والمطابخ، وعدم إدراكهم للآثار السلبية التي تعود على الفرد والمجتمع نتيجة مخالفتهم الضوابط الصحية.
فقد أساء كثير من أصحاب الجشع إلى سمعتنا إساءات لا تليق بشرف هذه البلاد.
هذه قضيتنا، وهذه مخاوفنا، وهذه هي التجاوزات التي تتربص بنا، وبعد، فليس لنا سوى أن يحكموا ضمائرهم وعقولهم.
فقد ظهرت أمراض لم تكن في الحسبان، وأصبح الوعي العام بتلك المخاطر قوياً ومؤثراً، وأصبح خطر هذه النوعية من اللحوم ماثلاً للعيان.
ما الذي يعنيه هذا كله بالنسبة لنا، هناك دروس يحسن أن نتذكرها لها علاقة بصحتنا ومستقبلنا:
• هو بناء سمعة طيبة، نتجرد ما أمكننا من رغباتنا وطمعنا وأن نتثبت بأكبر قدر من الصلاح!
• هو أن نضع أنفسنا موضع المستهلك المتضرر من هكذا إجراء!
• هو أن نحرص على ألا نكون جشعين نجري وراء سراب المال الحرام، فلا نبصر إلا أشواك الطمع، ونصبح بذلك من معدومي الضمائر!
• هو ألا ننسى أبعاد جهلنا بما يمارس من فساد واستهتار دون خوف أو مبالاة!
• هو أن نحرص على حمل المسؤولية والرضا، فلا نجد أمامنا رقيباً سوى الله عز وجل!
منصور الصلبوخ
اختصاصي تغذية وملوثات.