المُتَقَلِّبون

أن تكون يوماً في قمة الأخلاق وأقدسها مع الناس، وفي اليوم التالي تنعدم منظومة القيم لديك؛ فذاك أمر في غاية الصعوبة والألم.

إن كنت فاقدًا، أو موجوعاً، أو مريضاً، أو لديك خلل أو اضطراب فسيولوجي؛ فالحزن سيلوح على وجهك ويحوم على قلبك حوم الحمائم؛ لكن ذلك لا يؤدي لانقلاب منظومة القيم لديك رأساً على عقب، أو لانعدام التربية والسلوك فيك بأية حال.

لا أحد منا – مطلقاً – إلا وهناك جزء من قلبه، وآخر من جسده تحت اللهب الحارق، وإن اختلف مقداره أو عدد الاحتراقات فيه.

للحياة سنن طبيعية منذ النشأة الأولى يعرفها الجميع، ويسلّم بها تسليم المقر المذعن أو المضطر؛ ومنها الموت، والمرض، والمصائب، والابتلاءات.

ولسنا الآن في صدد بيان عِلّتها أو هل أن هذه الابتلاءات رحمة أم نقمة؟! أو هل أن المبتلين هم الصفوة أو العكس؟! وما شابه ذلك، ولكن جل ما نقوله هو أن أوجه الابتلاءات للناس ليست محصورة في المشهور منها كالموت، والفقر، والصحة فحسب؛ فالجهل، والانحراف، وسوء الخُلق، والتجسس، والنميمة، والحسد، والبهتان ليسوا بأقل خطورة مما سبق عند العقلاء مطلقاً.

من الطبيعي أن يكون الابتلاء لرفعة مقام العبد وطهارته تارة، ولاصطفائه في المقامات الفردوسية تارة أخرى باعتباره محلاً لعناية الله وهدفاً لابتلائه، لكن بعضها الآخر يكون عقابا لتكبر الإنسان وجبروته وبيان ضعفه.

تتجاوز رسالة المصاب – أحياناً – المبتلى نفسه لمن هم حوله أو للمجتمع بشكل عام.

نجد أكثر الناس ابتلاء هم الأنبياء والرسل، ثم الأولياء، ثم المتقون؛ ولذلك رسالة خاصة وعظيمة تتعلق بهم وبمقاماتهم وأدوارهم، وفي المقابل نجد ابتلاءات عظيمة كذلك للجبابرة، والظلمة لا تحد ولا تعد جزاء لهم بما كانوا يصنعون.

وعليه؛ فالابتلاءات سنن طبيعية للناس لا ينبغي تضخيمها بأية حال، ولا تصغيرها في الوقت نفسه {إنَّا كل شيء خلقناه بقدر}.

وقد رسم الدين الأخلاق المناسبة لكل حالة من الحالات، ووضع لها الأسس والمبادئ التي تتناسب معها بعيداً عن سياسة الفوضى والعبثية.

وعليه؛ فإن كان أهل الابتلاءات محل تأمل ونظر إذا انقلبت منظومة القيم لديهم أحيانًا؛ فما بالك بمن لا عذر لهم؟! وهم ما يطلق عليهم المزاجيون أو النفسيون بلغة العصر.

ولا أحد مستثنى من الوقوع في هذا المرض الخطير. وجدنا بعض طلبة العلم، وبعض الأطباء، وبعض المعلمين، وبعض الأثرياء، وبعض الفقراء وسواهم يعيشون هذه الحالة من التقلبات المقيتة دون عذر، وفي مراحل ليست قليلة من حياتهم.

نستثني – فقط وفقط – المرضى المصابين بازدواج الشخصية أو انفصامها لأسباب علمية بحتة وهم خارج دائرة النقاش مطلقاً.

أحياناً يصل بالمتقلبين الأمر إلى تغيّر الشخصية تماماً، وكأن هناك شخصيتين للفرد الواحد بحيث يتحول من الهادئ الوديع إلى الوحش الكاسر، ومن العاقل الرشيد إلى المتهور الفظ، ومن المتعلم إلى الجاهل وغير ذلك.

غير أن ما استوقفني في هؤلاء المزاجيين هو انقلاب الأحاسيس ومشاعرها رأساً على عقب – في بعض الأحيان – تماماً واستمرار الحالة فيما بعد وديموميتها حتى الرحيل.

إن تحول المحب المتيم أو الرحم الخاص إلى عدو وبدون مقدمات أو أسباب عقلائية يضع صاحبه في إحدى الزوايا التالية:

الأولى: أنه أبدع في فن التمثيل لمراحل متعددة من الحياة، وربما لسنوات، وكان منافقاً يجيد دوره بارتداء أقنعة خاصة صباح مساء.

الثاني: أنه جاهل أضاع بوصلته فأضاع سلوكه ورشده، وحين غاب لم يستطع العودة.

الثالث: أن هناك دخلاء نفسيين أفسدوا عليه قلبه وخلقه؛ كالحسد والحقد، أو دخلاء خارجيين من بني البشر أوقعوه في شراكهم؛ ليهدموا سعادته وسعادة من يحب.

إن كانت الحروب في الإسلام قد وضع الله لها آداباً وسنناً فكيف بسواها من الأمور؟!

إن مجاهدة الإنسان لنفسه، وكبح جماح الانطلاق والتهور فيها ملكة خاصة؛ ينبغي أن يغرس بذورها كل الناس – في قلوبهم وأنفسهم – دون استثناء، وإلا فالبعض منهم سيهدم في ختام حياته ما بناه في تاريخه كله؛ لأن الأمور عادة بخواتيمها؛ وبالتالي بعضهم سيخسر دينه، ودنياه، وآخرته من حيث لا يعلم.

بعض الأرحام، أو الأصدقاء – فضلاً عن الأبعدين – لا يطيقون رؤية سواهم في الطليعة، وقد يكونون من أعداء النجاح، أو من ضحايا هوى النفس الأمارة بالسوء، وربما يكونون ضحايا لنسائهم أو أولادهم {وإن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم}؛ وبالتالي تراهم ينقلبون على أرحامهم، أو أحبابهم من غير مسوغ عقلائي مطلقاً، ثم يسرفون في عداواتهم.

أيضاً هناك من يحب أن يكون الآخر دونه، أو يوازيه في الملكات والقدرات فحسب؛ وإلا كان من أعدائه.

نحن لسنا متشائمين أبداً لنضع جل شرائح المجتمع بتمامها في هذه الزوايا الضيقة، وإنما بعضُ بعضها.

الحقيقة المجردة هي أن المجتمع ما زال بخير وأن الصلاح معقود فيه وفي أهله، كما أن الخلق الكريم والفضيلة ما زالا هما السائدان فيه؛ غير أن ذلك لا يلغي وجود بعض الزوايا التي ينبغي أن يسلط عليها الضوء لتجنبها حتى لا تنتشر بقصدٍ أو بدونه.

لم يسلم أحد قط من ألسنة هؤلاء المتقلبين على أبناء مجتمعهم؛ فالأطباء، والمهندسون، ورجال الدين، والمعلمون، والتجار، والمهنيون، وغيرهم كانوا محلاً للطعن، والقذف، والتشهير، والتوهين في مجتمعاتهم من المقربين منهم، أو المنافسين لهم لأسباب مختلقة وكيدية في أغلب الأحيان.

بلغ ببعض الناس كيدهم أن يرفعوا دعاوى باطلة على آخرين؛ لإزعاجهم وتلويث ثيابهم النظيفة وسمعتهم الشريفة.

حديثاً لجأت وزارة العدل لسن قوانين خاصة للدعاوى الكيدية بعد تفاقمها ليعرف كل أحد حدوده التامة وبدقة ويتقي الله ربه.

ولا يفوتني القول هنا إن هناك شرائح متعددة من المجتمع تميل إلى نشر ثقافة التسقيط والتشهير في وسائل التواصل الاجتماعي بين الناس بدون بيّنة أو دليل، وتجدهم يتناقلون الأخبار السلبية وكأنها حقائق مسلمة ويعتبرون ذلك ثقافة نوعية خاصة. وهؤلاء ليسوا بأقل خطورة من الذين يتبادلون الأحاديث والأخبار السلبية عن الآخرين في ديوانياتهم، وأماكن لقاءاتهم بلا تأمل أو استقصاء.

الشارع المقدس يقول: إن نشر الكبائر أو القبائح بين الناس أكبر من عملها؛ ولكن بعض الناس لا يعلمون.

وعليه؛ نجد الكثير من المزاجيين يتعاملون مع الناس حسب الحالة التي يكونون فيها؛ فإن كانت قلوبهم طاهرة، وآذانهم تسمع الخير، ولم تعبث نفوسهم الأمارة بالسوء بفطرتهم السليمة؛ تراهم ملائكة الرحمة وطيور الجنة، وإن كانوا فرائس لنفوسهم، أو ضحايا لآذانهم تجدهم وحوشا ضارية لا تبقي ولا تذر.

هؤلاء المزاجيون تقلبهم قلوبهم تارة، وعقولهم أخرى، وظروفهم تارة ثالثة من حيث لا يعلمون.

وخلاصة القول: هيئ نفسك جيدا لكل الاحتمالات، وأزل سقف المستحيل من عقلك، ولا تضع أحداً خارج الدائرة أو القانون، وتوقع كل شيء مستقبلاً؛ لأن كل شيء في الحياة قابل للتغيير إلا ما رحم ربي؛ وخاصة حين تكون مبدعًا، أو متميزًا، أو موفقًا.


error: المحتوي محمي