قلما يأتي ذكر شعراء الزهد والتقشف والحكمة فلا يكون أبو العتاهية، إسماعيل بن القاسم بن سويد العنزي، في مقدمتهم. كيف لا يكون وهو الذي انصرف عن حياة اللهوِ والمجون إلى التنسكِ والزهد، وانشغلَ بخواطرِ الموت، ودعوة الناس إلى التزوّد من دنياهم لآخِرتهم، فمن ذا الذي يقرأ ما قال أبو العتاهية ولا يرق قلبه؟:
الناسُ في هذه الدنيا على سفرٍ
وعن قريبٍ بهم ما ينقضي السفرُ
فمنهم قانعٌ راضٍ بعيشتهِ
ومنهم موسرٌ والقلبُ مفتقرُ
ما يشبع النفسَ إن لم تمسِ قانعةً
شيء ولو كثرت في ملكها البدرُ
لكنني أكاد أجزم أن الشاعرَ الذي ترك البحرين ومات في القطيف سنةَ ١٧٥٩م أرق شعراً وأعظم موعظةً من أبي العتاهية، ولم يذع صيته مثل العنزي لأنه كما قيل: فكم في الخدرِ أبهى من عروسٍ؟ ولكن زين الزمنُ العروسَ! الشيخ حسن الدمستاني شاعرٌ أحكم من أبي العتاهية لكنه لم يشتهر لأن في شعرهِ لونٌ خاص حجبه عن التداول العام!
مات الدمستاني في أرضِ القطيف ودفن في مقبرتها وكافأه أهلها بحفظ شعره وقراءته، فمن النادر أن يكون فيهم من لم يسمع شيئاً منه، له في كل حزنٍ نصيب، لكنني أشك أن الكثير منهم يعرف أن الدمستاني مدفونٌ في وسطِ مدينة القطيف. كلما قرأت شعر الدمستاني، سألتُ نفسي هل قال أحدٌ من الشعراء المشهورين في الحكمةِ والزهد أبلغَ من هذا؟
يا منفقَ العمرِ في عصيانِ خالقهِ
أفق فإنك من خمرِ الهوى ثملُ
تعصيهِ لا أنتَ في عصيانهِ وجلٌ
من العقابِ ولا من منهِ خجلُ
أنفاسُ نفسكَ أفنان تعد فهل
تشري بها لهباً في الحشرِ يشتعلُ
تشح بالمالِ حرصاً وهو منتقلٌ
وأنتَ عنه برغمٍ منكَ منتقلُ
إذا جئتَ مقبرة القطيف فلا تنس الدمستاني الذي استطابَ أرضها كما استطاب أهلها شعره وملكوا عليه روحه وجسده دون غيرهم من الناس. تذكر الشيخ الذي عمل بيده ليكسب القوت، وعمل بعقله ليكسب العلم، وعمل بعاطفته ليكسب والقلوب!
غطى الشبابُ على عقلي فأضحكني
وأسفر الشيبُ عن جهلي فأبكاني
إذا تأملتُ ما أسلفتُ خامرني
حزنٌ يذوب به قلبي وجثماني
هو الذي يبكيك كل عامٍ في “مربعتهِ الشعرية” فتردد مع من يقرأ:
ضمني عندكَ يا جداهُ في هذا الضريح
علني يا جد من بلوى زماني أستريح