صحوة ضمير

بعد مضي أيام قلائل من وفاة زوجته، تحطم  نفسياً ولم يعهد نفسه هكذا، وذهب باحثاً عن طبيب نفسي وبعدما وجده قال له: لم يكن السرطان من قتلها بل كنت أنا! أشعر بشيء في داخلي يتحطم، الصوت يزداد، كل يوم، لقد زاد أكثر، أيعقل أن يكون ضميري!

كم ظلمتها  معي ولم أشعر بالنعمة التي كنت أمتلكها، تجاهلي لها وإهمالي ولا مبالاتي، كم أنا أفتقد الإنسانية، كان يجب عليّ أن أنتبه لكل ما تقوم به، في ذاك اليوم  عندما كانت تطلي  أظفارها، وأًن أعبر لها عن جمال تسريحة شعرها، عن رائحتها التي تثبت لي أنها ترعرعت بين زهور الياسمين.

كان يجب عليّ إخبارها قبل النّوم أنًي أحبها، وبعد الاستيقاظ أنًي أحبها، وما بينهما أني أحبها، كان يجب علي أن أعترف بغلطتي عندما تصورت أنني أحببت غيرها وجريت وراءها كالبهيم المجنون وحرقت قلبها بالزواج بغيرها،  وكان علي أنً أهتم أكثر بأولادي وبيتي.
ثم  قال بصوّت مبحوح كسره  الندم: الحب يا صديقي بإمكانه أن يُدمر جسدك بنفس الطريقة التي يدمر بها السرطان خلايا الإنسان ولكن بكميات هائلة من الفوضى، لو يعلم كلّ إنسان أنه دواء لشخص ما، ما  وصلنا إلى هذه الحالة القاسية، أنا يا صديقي نادم، فماذا أفعل؟!

قال الطبيب: قد تأتي للإنسان قبل النوم رغبة حقيقية في تغيير حياته، ويقطع وعوداً مع نفسه بتبديل شكل حياته، ولكن بمجرد أن يستيقظ ينسى كل شيء، وهذا ما فعلته بزوجتك، أحببت نفسك ورغباتك، ولكن هل أنت فعلاً نادم أم أنها صحوة ضمير بسيطة ثم تتغلب عليها شهواتك وتنسى كل شيء؟

فقال: عزيزي، ماذا يُمكنني أًنّ أَقول لك، الأمورُ لا تمضي على ما يُرام أبداً، إنني أكثر حزناً وضجراً مِما أستطيع أنّ أصفهُ لك، ولمّ أعد أعرفُ في أيّ نُقطة أنا، حتى ما عدت أعرف نفسي، أحتاج لشخص يعرف أني أكابر رغم الحنان الذي بـداخلي، يعرف أن قسوتي بالكلام على زوجتي الراحلة تظل مجرد كلام، أحتاج شخصاً يتجاهل كل أغلاطي ويعرف أنها مجرد ردة فعل، الشعور المزعج عندما  تشعر أن الكلام أتفه من أن تقوله، لكنه أثقل على قلبك من أن تخفيه.

هناك سر بداخلي ما عدت  قادراً على إخفائه، تظاهرتُ بأن كل ما حدث لي كان عاديًا، بينما كان يؤلمني جدًا.

قال الطبيب: أعلم أن هذا الوقت سيمر لكنه يمر بطيئاً، يمر بكامل ثقله على قلبك، ويسرق من أيامك الكثير.

وضع رأسه بين ركبتيه وقال: هل يمكن عمل شيء لأني أَحتَاجُ إِلَى البُكَاءِ اللَّيلَة، وَالاِختِبَاءَ تَحتَ الأَغْطِيَة كَمَا اِعتَدتُ، وَالضّغطَ عَلَى وَسَادَتِي، وَتمْزيقِ نَفْسِي.

وضع الطبيب يده على كتفه وربت عليه وقال: عليك أن تكون قوياً وتواجه نفسك، فهذا ما جنته يداك ولقد فات الأوان ورحلت زوجتك للرفيق الأعلى  والله يتولاك برحمته.

فقال: ماذا تقول يا طبيب؟! ‏لم يعُد لدي الرغبة في وصف ما بداخلي لأحد، اعتقدت أنك نجاتي وإذا بي أجدك غير ذلك، أنا حزين وما أخفى عليك حزني وها أنا أتذكر صمتها، ‏لا أعتقد أن السكوت دائماً علامة رضا، فأحيانًا يكونُ علامةَ تعب، علامة حفاظ، علامة صبر، أو أنه علامة على اليأس في الإصلاح.

ذرفت الدموع من عينيه وقال: يـا لهذه الذاكرة التي تعانـد وتحتفـظ بكُـل شـيء وتـرفض أن تتنـازل عـن التفاصيـل.

قال الطبيب: لا توجد قوة على وجه الأرض تستطيع إنقاذ الإنسان، لطالما عجز عن إنقاذ نفسه.

رفع عينه نحو السقف وقال: سيبقى في داخلي شيءٌ مِن هذا الضياع لِلأبد، شيءٌ ما لنّ يعودَ أبداً، سيبقى في داخِلي شيءٌ مبتور.

وأدار رأسه نحو الطبيب وقال: لم أتصنع أياً من الكلمات التي كنت أسردها لك خرجت من فمي بشكل عفوي كما شعرت بها.

أمسكه الطبيب وساعده على النهوض ومشي معه إلى ان وصل باب الغرفة وقال له: ستطيب لنا الدنيا يوماً وننسى مرها، صحبتك  السلامة!

ظل واقفاً بجوار غرفة الطبيب وقال في نفسه: لست سيئاً كما  أخبر عني، إنها فقط بقايا الحرائق تغطي على القلب من الداخل، كانت لمسة من الود كافية بإزاحة ذاك الركام عني.

‏كيف سأهرب منكِ؟ وأنتِ تحاصرين الوقت وتقفين على كل أبواب التاريخ؟ كيف سأجد منفذًا لا تحرسينه؟ وأنتِ مجسّدَةٌ في كل مكان؟ كيف سأغيّر وجهتي يا سيدتي؟ وأنتِ موزعةٌ على كل الطرقات ولن أستطيع الحياة بدونكِ، أنا بحاجة إلى إمدادات لا مُتناهية من الطمأنينة.

اعتدل  منتصباً ومضى في طريقه خارجاً من العيادة إلى منزله وهو يحدث نفسه: من سيصدق الخراب الذي بداخلك وأنت تبتسم طوال اليوم!

اليوم كان مختلفاً لأني دخلت لغرفة زوجتي الراحلة، شعرت بالغربة، بالوحدة، شيء ما انكسر في داخلي كلما تذكرت جلوسها على السرير وأمام مرآتها تسرح شعرها ونظرتها لي.

لم يكن الأمر بالسهل، لم أتمالك نفسي وانهمرت دموعي وكأنها نهر جارٍ.

لم يسألني الكثير عن سبب حزني لأني كنت أداريه بالابتسامات والضحكات المزيفة، تبسمت إلى أن تشنجت أعصاب فمي.

لا أدري بماذا كنت أشعر بالضبط! ولكن ثمة أحداثاً مرعبة تحدث معي، كصمتي الطويل وإنصاتي للآخرين دون أن أقاطع حديثهم!

على العموم مرت الأيام وأنا أحاول خلق أجواء تنسيني الماضي، أنا أحاول الهرب من الذكريات ولكن كانت تباغتني في كل وقت، وفي كل زاوية، كأنها تخبرني أنني هنا، يكفي ضحكاً، كفاك ثرثرة.

أصبحت أقضي وقتي بالنوم هرباً من ذكرياتي البائسة، ما عدت أكترث لأبنائي، تركت لحيتي منسدلة، أهملت هندامي، ما عاد لأي شيء طعم عندي عدا ألم ضميري كيف أروضه؟ والأحلام التي توقظني وكلها تعطي مدلولاً على أني ظالم لعين بائس تسببت في موت إنسانة هي نسمة كالهواء، لا أعلم ما حل بي حتى فعلت بها ما فعلت، أشياء أخجل من ذكرها بيني وبين نفسي، فوا اسفاه كيف لي أن ألقى الله وأنا بهذا الخزي والعار؟

انفض من حوله الأصدقاء حتى من ضحى بزوجته لأجلها، فقد ظهر وجهها الآخر، لم تحتمل حزنه وبؤسه فأخذت أولادها وغادرت المنزل تاركة زوجها للعذاب وتأنيب الضمير، والمضي قدماً في حياتها غير مبالية به فلقد أخذت ما تريد.

أخيرا عرف نتيجة فعله الشنيع ولكن بعد فوات الأوان، للأسف صحوة ضميره جاءت متأخرة جداً فما عساه أن يحيا حياته الباقية!

يقول لنفسه: ‏أنا مختلف عن السابق، وغداً سأكون مختلفاً عن اليوم، لكنه لم يفعل شيئا سوى لوم نفسه وتذكر الماضي في انتظار أمر الله ليلحق بزوجته لعله يجد الراحة التي يتمناها.


error: المحتوي محمي