الموسى ونتاليا سفر للحلم والمعنى (31)

هل تعب الموسى من التطواف حول المدن، هل أنهكه الترحال،أما آن له أن يستريح من وعثاء السفر. أيستريح مهاجر عاشق للاغتراب؟
من يطوي صخب الصمت في لحظات الوداع، ويقرأ العيون من دون كلام، مسافات حزن شاردة، ونظرات تيه كسيرة، طائر المنافي أضناه السفر بعد أن ساء ما رأى،لمدائن أفلت شموسها وأمكنة غابت أقمارها، وجنائن ذبلت أزهارها، باتت الأيام عبوسًا حالكة شبه ظلام، فابصر الرحيل دروبا للفرار، لا سماء ولا أرض تبهج الروح، والهواء اختناق، لم تعد البلاد التي هواها الموسى وتعلم فيها ورأى نفسه فيها إنسانًا وفنانًا كما كانت، كل شيء تغير بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، سقوط مدوي هز العالم برمته، ومعه انتهى حلف وارسو، وقبلهما سقط جدار برلين، والحرب الباردة وضعت أوزارها، انتصر حلف الناتو ومن صف معه، مصائب قوم عند قوم فوائد.

تتدافع الأسئلة وتزدحم على باب السؤال، هل كان الاتحاد صرحًا من خيال فهوى؟
يموج الجواب ويسترق السمع من اللاجواب، صدى مقموع واللهفة احتضار، لمن ندبوا الحظ وتواروا عن الأنظار، خفتت أصوات الملايين وانطفأت مشاعل المتيمين، ولم يصدقوا بأن أحلامهم تنهار كقالب ثلج في يوم قائض، وأي انهيار؟ انهيار فكر، انهيار اقتصاد، انهيار سياسة، انهيار منظومة، انهيار مشاريع أمة على جميع المستويات، ضياع في ضياع، ومعها تقوضت كل مجالات الثقافة والفنون، انحسار في كل شيء، والأحلام سراب، وخبأت أناشيد الشبيبة، وسقطت المطرقة وتدحرج المنجل، والأعلام الحمراء أكفان لفت بأجساد الكادحين والمنظرين والطامحين بالغد الأفضل.

وحكاية الموسى مع محطات الأسفار لم تبح بكل أسرارها، لديه فيض مستور عن عوالم الترحال، وثمة سطور من التدوين تطل بين الحين والحين ولكنها آثرت الرحيل خلسة وعدم الإبقاء، ويأتي الإفصاح عنها همسا من وراء حجب، هي حالة تلبس سكنت الموسى بروح المغامرة منذ أن كان يافعًا، انتفض لتغيير واقعه بحلم أكبر مما كان يتصور، فانتازيا التوق لواقع أجمل أخذته بعيد بعيدًا، ولم يدر ما ستخبئه له الأيام من انكسار، أسفر صبح بلا مستقبل، وجرت الرياح واقتلعت مراكب الأحلام، ولمس عين اليقين ما كل ما يتمنى الحالم يدركه.

لكنه حقق حلمه الأكاديمي ومشروع الزواج، وأراد الشخص الذي يود أن يكون من دراسة وعلم وفن وإنجاز، وما عدا ذلك أصبح سرابًا في سراب، أبعد نهاية المشوار قبر حلم الرفاق للأبد، ونفض يده نهائيًا عن مصافحة الأوهام.

بالأمس اتخذ من التمويه والتخفي سوره المسيج وحصنه الحصين.
لو عاد به الزمان هل يبحث عن الكنز المخفي تحت كاتدرائية الساحة الحمراء؟!
التشكيلي المناضل الرسام، المسافر، المهاجر، الهائم، التائه في دروب الأسفار، والمتقلب بين الأفكار والأفكار، الفنان عبدالستار الموسى حياة مليئة بالمغامرات، بالتضحيات، بالارتحالات، بالخبرات، بالمجادلات،
ثلاثة عقود سفر في سفر، اكتسب عديدًا من المعارف والأصدقاء، قابل بشرًا وبشر، وتعرف على أقوام وجنسيات، وتعرض لآهات وأحزان وأفراح ومِحَن، عاش التناقاضات والمفارقات وتصاريف الزمان.

هو شاهد على تفكك الإمبراطورية السوفيتية، وخبر المجتمع الروسي من قبل ومن بعد، ولامس عن قرب شعوب وقبائل، تعرف على نسيج القوميات التي كانت يوما ضمن دولة تسمى (CCCP). رأى أحداثًا هزت العالم مثل كارثة تشرنوبل، وتغير ذهنيات أقوام وتحول منظومات ثقافية، وتبدل أسماء مدن وانفصال دول. احتك بعلية القوم من عرب وعجم، خبر عقليات مجتمعات من نساء ورجال.

هذا المزيج من المعايشة والمماحكة، فنيا وحياتيا، جعلته إنسانًا مختلفًا منفتحًا على الآخر، نضجا وفكرا ووعيا، فهو متعدد الأوجه والثقافات والآراء، تأثر بالفكر الماركسي ودافع عنه بضراوة وإيمان، مؤمنا بأيدلوجية اليسار حد النخاع، كان شيوعي الهوى والمزاج، مفتونا بمشاعل النضال، وليس وحده في الميدان، هناك لفيف من الشبان والشابات والأصحاب من مختلف مناطق البلاد، فقد أجاب لمراسل تليفزيون (MBC) في معرض الجبيل للفن المعاصر قبل سنتين: (نعم تأثرت بالأفكار الشيوعية، لأنها أفكار تقدمية، أفكار فيها نوع من التحرر، نوع من الإيجابية في بعض الأمور لكن في بعض الأمور الثانية كنت ضدها ورافضها) هي أفكار أممية تبناها ردحا من الزمن ثم تخلى عنها طوعا بعد أن فقدت بريقها في مسقط رأسها، وأصبحت في حكم الماضي، حاله كحال الكثيرين من الفنانين والكتاب والروائيين والشعراء خليجيا وعربيا وعالميا.

وهناك قائمة تطول من المبدعين العرب سلكوا دروب اليسار وتبنوا الفكر الشيوعي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى نهاية الحرب الباردة.
وبعد هذه التجربة الطويلة نسبيا التي خاضها الموسى، هي حقبة ملتهبة وملتبسة ومسكوت عنها، والصامتون كثيرون يخشون الجهر بها، الموسى لم يتنصل بالبوح بها، ولم يتبرأ منها، بل اعتبرها جزءًا من ذاكرته، جزءًا من تاريخ مسيرته النضالية والفنية.

والآن أصبح على قناعة تامة بحرية العقل وبالرأي المنفتح غير المؤدلج بعيدًا عن اليمين وعن اليسار، مؤمن بالفكر الحر الساعي للتنوير، وبالقيم الخلاقة الناهضة بالمجتمع، ديدنه الجدية فيما يرسم وما يلفظ من قول، حريص على الإتقان في الفن، ويرى أن العمل الفني لابد أن يحمل فكرة ويكون له بعد جمالي يكمن وراءه المعنى ومن دون المعنى يصبح العمل الفني شكليا تزينيا. وللتاريخ بأن الموسى هو أول فنان سعودي درس الفن في موسكو، ويفخر بأنه الوحيد الذي علقت أعماله في متاحفها، يأمل أن يكون في وطنه متحف خاص بالفنون يضم منجزات الفن السعودي الممتد لأكثر من 50 عامًا، وحلمه أن تكون أعماله معلقة بجانب كوكبة الفن التشكيلي في بلادنا ضمن متحف يكون علامة تشكيلية حضارية في رؤية 2030 يحمل عنوان متحف الفن السعودي المعاصر.

نتمنى أن يتحقق هذا الحلم قبل أن يغادر الحالمون مسرح الحياة.


error: المحتوي محمي