في القطيف.. تشكيليون يعيدون لـ«البراحة» عبق التراث ويحفظون ذاكرتها بألوانهم

حوّل فنانو القطيف مهرجان البراحة الثاني، إلى مركز إشعاع لوني وتراثي، يفوح من بين ألوانه عبق الماضي والتاريخ القريب، لوحات هي أقرب للأهازيج البصرية، ومنازل تشتم رائحة حجرها، ومذاق طهيها يتسلل إليك من داخل اللوحات، و«القطيف اليوم» كانت على موعد مع معزوفة نسق تشكيلي في حب القطيف، لعدد من فنانيها التشكيليين.

البداية كانت مع الفنان عباس آل رقية، والذي كرّس غالبية أعماله إن لم يكن كلها لرصد الزخارف القطيفية، وتحدث عن تجربته التي بدأت قبل 28 سنة تقريبًا، حيث إنه بدأ الرسم منذ أن كان طالبًا في كلية التربية الفنية، وأعجبته الزخرفة في الملابس النسائية من المشمر والهاشمي، وقال: “لفت انتباهي في ملابس أمي وأخواتي، هذه الزخرفة التي أثّرت فيّ بشكل انسيابي فطري، وانتقلت  بشكل تجريدي إلى لوحاتي، خاصة الزي القطيفي البسيط، وقد جمعتها في كتاب يضم أكثر من 500 زخرفة شعبية قطيفية، سواء من الوالدة -رحمة الله عليها- أو من جدتي وغيرهما، فهذه الرسومات أشعلت فيّ حب التراث والزخرفة، وأتمنى طباعة الكتاب، ولكني أعمل على تأصيله وتوثيقه وتأريخه من المختصين”.

لوحة وقصة
وكان من بين المعروض؛ لوحة استوقفتنا، وهي لمجموعة من السيدات، والعائلات يسيرون في المزارع، وهي مطبوعة في كتاب عبده الغبرة، وهذه اللوحة لها قصة يقول عنها أل رقية: “كلمتني القنصلية السعودية في فرنسا، وحدثتني عن إقامة أيام سعودية في باريس، وكان الاتجاه لطباعة بعض الكتب باللغة الفرنسية، وما طلب مني هو التوجه لطباعة بعض اللوحات التي تعبر عن منطقتنا، فاختاروا هذه اللوحة لتطبع على الكتاب، وهذه الصورة تعبر عن التراث عموما، لعائلات خارجين من مزارع النخيل، وهي خاطرة فنية، والأهم هو الزي والزخرف الذي يميز الملابس، فكل زخرف يعبر عن منطقة معينة”.

من الداخل
وأضاف أن هناك لوحة أخرى للبيت القطيفي من الداخل، وهي مجموعة كاملة، ويعتبرها من المجموعات النادرة التي تتحدث عن البيت القطيفي من الداخل، مشيرًا إلى أنه اقتحم هذه المنطقة لينقل ما هو داخل البيت.

طالعة النخل
ويبدو تأثر آل رقية بأجواء الطفولة وذكرياتها، ومنها النخيل والمزارع في لوحاته حيث إن المرأة موجودة بقوة في لوحاته، وعن هذه النقطة يقول: “المرأة كانت تعمل، وكانت “تركب” النخل، واللوحات فيها الفرحة والابتسامة، وقضيت حوالي سنة ونصف السنة بين النخيل والمزارع، لأعمل إسكتشات، وهذا الماضي قبل 40 سنة تقريبًا”.

وخص «القطيف اليوم» ببعض اللوحات التي لم تعرض بعد، ومنها لوحة “العيد” والتي تعبر عن فرحة أهالي القطيف بقدوم العيد، وهي حوالي 3 أمتار، ويصفها بأنه كان يرى المنطقة بعيون فرحة، وبهجة لونية، رغم أن كل الوجوه مصمتة، ليكون التركيز على الزخرفة، وأيضا لوحة لبيت “الجشي” في تاروت، فبعض اللوحات حقيقية، أعاد صياغتها بشكل فني زخرفي، ولوحة نساء في الصباح تسف، والزخارف الجصية، والحياة اليومية للنساء في الصباح، وكذلك هناك لوحة حديثة ما زال يعمل عليها، تحمل الفرح والوجوه.

عائلة فنية
وأشار إلى أن الفن جين وراثي في عائلته التي تزخر بالفنانين والخطاطين، ولكن عمله أكاديمي بشكل أكبر، بحكم أنه معلم تربية فنية، وأن أخاه كان يرسم، وعندما بدأ وجد منْ يعيب عليه استخدام الزخرفة، وكانوا يطلقون على أعماله “لوحات أطفال”، في حين جابت هذه اللوحات الآن العالم من أمريكا إلى الصين، وكثير منها تزين بعض البيوت الأمريكية، ومنهم من يشاهد لوحاته عبر وسائل التواصل الاجتماعي ويطلبون اقتناءها، وقال: “أخاف أن ينتقل هذا التراث إلى أماكن أخرى، ولا يكون موجودًا عند أهل البلد، وأتمنى أن تكون لوحاتي موجودة في كل بيت، ولذلك لجأت إلى طباعة بعض الأعمال، وأجبرت على طباعتها حتى تكون في بيت من بيوت القطيف”، منوهًا بأن الطباعة كانت للإهداء، ولكن فجأة وجد اتصالات من الرياض وجدة.

وأشاد آل رقية بالتفاعل في مهرجان البراحة، واصفًا إياه بأنه تظاهرة جميلة، ويتمنى حضور الجميع، والأطفال خاصة، لما لديهم من شغف وأسئلة عن التراث والزخرفة، فهي ثقافة لابد أن تتناقل، وذكر أن التفاعل بين الفنان والحضور جيد، للغوص في التراث والذكريات، وأن بعض الزوار من كبار السن، يتأثرون باللوحات، والحنين إلى الماضي وتأصيله.

تراث
وبالنسبة للفنان منير الحجي فيعرض في ركنه الخاص بعض اللوحات، التي أوضح أنها لوحات تشكيلية تمس موضوع المهرجان، فهي تجسد تراث القطيف قاطبة، وخاصة تراث القلعة التراثية، المبنى الذي تم بكل أسف إزالته، ويوثق الأسواق والتجمعات التي كانت تقام في القطيف واندثرت، مثل سوق الجبلة، التي تقع وسط القطيف، جنوب القلعة، وكانت مشهورة باستقبال البضائع من مختلف مناطق العالم، لتحط في ميناء القطيف؛ أشهر الموانئ السعودية كلها، بل وأشهر موانئ المنطقة، مع ميناء عمان، والكوت في البصرة، ملفتًا إلى أنه كان للسوق أهمية، حيث كانت تمثل مركزًا لتنزيل البضائع، ومن ثم نقلها إلى كل مدن المملكة، موضحًا أن حجم اللوحة الأصلية نحو مترين ونصف المتر، وأنه انتهى منها خلال شهر، بمعدل عمل 4-5 ساعات يوميًا، وأن الصعوبة الوحيدة التي واجهته هي الوقت، ولكن يرى أنه بعد التقاعد سيكون الوقت أكثر توفرًا لديه.

وقال: “رغم أن تخصصي إدارة مدرسية، لكني عملت لمدة عام واحد فقط، ثم انتقلت للعمل كمعلم تربية فنية، وهو عملي الذي أمارسه في الصباح، وفي المساء أصبحت أتفرغ للرسم، وهو ما ساعدني للتغلب على إشكالية الوقت، وأصبح لدي المتسع لممارسة هوايتي”.

الجمال.. قطيف
وأضاف الحجي أنه بدأ الرسم عندما كان يدرس في المرحلة المتوسطة، والآن أصبح عمره 58 عاما، مشيرًا إلى أنه لا يختار موضوع اللوحة، بل إن الموضوعات هي التي تفرض نفسها، ولكن القطيف فرضت نفسها بالمواضيع الماراثونية؛ بحرها، شرقها، غربها، قلاعها، عيونها، سماؤها، فالجمال هو القطيف، وفي الفترة الأخيرة اتجه إلى الأماكن الأكثر تميزًا ليبرزها في لوحاته.

المنازل
وشارك الفنان الحجي بعدد من اللوحات، والتي اتسمت بالملامح العمرانية، خاصة المنازل، وهو ما أكده الفنان، أن هذه المشاركة مقصودة للتعريف بالطرز المعمارية، والمنازل، وكل المباني التي عايشناها.

وقال: “هي لوحات حقيقية، عشت فيها حتى بلغ عمري العشرين، وهذه المنازل كانت أساس المهرجان، وكنا نسميها “براحة الحليب” نسبة لبائعي الحليب ومختلف المنتجات الزراعية، وهو المشهد الذي تمثله لوحة البراحة، حيث كانت سوقًا يقام في شهر رمضان على مدار ثلاثين يوما، والتي أتلقى أكثر الأسئلة عليها، والأسئلة عن استدعاء الذاكرة أم استخدام كروت أو صور قديمة، واعتبر أسئلة الزوار هي الكنز، لاستثارة اهتمامهم على مختلف فئاتهم العمرية والثقافية”.

مزيد من التفاصيل.. فيديو:

 


error: المحتوي محمي