الموسى ونتاليا سفر للحلم والمعنى (30)

أمكنة تستأنسها نزلاً، تحط رحلك بها زمناً، وإن رحلت عنها جسداً، تبقى روحك هائمة فيها، فالقلب أسرته عشقاً، والوجدان وجدها ملاذاً، فتراودك سفراً على سفر، تعود إليها حنيناً على حنين، لأنك رأيت فيها حلمك، حبك، عشقك، خيالك، إنسانيتك، تلك هي علاقة الموسى مع روسيا القديمة الجديدة، التي كانت بالأمس مرتعاً لكل الأحلام، بحجمها بمساحتها بفنونها بناسها بأمجادها بكل رائع فيها.

حواسه لم تزل متواصلة مع المكان بتجدد مطرد لم ينقطع يوماً، شوقه متأصل لموطن زوجته وزوجة ابنه الأكبر، امتدادات نسب ومصاهرة، أقارب بين وطنين وأرحام، واللغة الروسية لسان العائلة.

برغم المتغير القاسي واختفاء مباهج ذاك الفردوس، تبقى بوصلته مصوبة نحوها آناء الليل والنهار كقبلة ارتضاها وجهة لن تتغير.

ثمة حلم ظل معلقا بين الزوجين، بعد أن تركا الموسى ونتاليا جارة البحر بعد عملية انفصال جمهورية أوكرانيا عن روسيا الاتحادية، مرتحلين للإمارات مقيمين فيها اشتغلا فنياً وكسب معيشة، حطا رحلهما عام 1992.

وما بين فترة وأخرى يأخذهما الحنين لزيارة العاصمة موسكو لبضعة أيام ثم العبور منها إلى عاصمة سيبيريا “كراسنا يارسك”، لزيارة أهل الزوجة وبعدها يرجعان إلى أبوظبي.

حراك سنوي بين سفرة واثنتين.

وبعد مرور 7 سنوات قام الموسى لوحده بزيارة أوكرانيا متجهاً لمدينته الأثيرية التي ألفها وألفته سنيناً عديدة، وبها وشائج حب ونبض قلب، جمعتهما بأجمل اللحظات وأعذب الذكريات، قائلاً لها: “أهلاً يا جدانوف ها أنذا أعود إليك مجدداً وعامنا يشير 1999، أعود إليك وبي من الأشواق مثل امتداد بحرك، لكني أراك ليس كما عهدتك!

وجد المدينة أن اسمها تغير، وكل شيء فيها تحول؟

وما إن علم أصحابه بمقدمه احتفلوا به احتفالاً مهيباً، وسط حضور إعلامي من صحافة وتليفزيون، ومقابلات عن أسباب غيبته الطويلة والدهشة تعلو الوجوه من حضوره المفاجئ، وأسئلة انثالت على مسامعه وعن واقع الفن في بلاده، وأخباره الفنية الحالية وآماله وطموحاته المستقبلية.

أصحاب الأمس أبلغوه بأنه الغائب الحاضر، حاضر بينهم بتراثه الفني المعلق في متحف المدينة وذكروه كثيراً قبل شهرين من مجيئه إليهم، حيث أقيم معرض مشترك بين نخبة من اتحاد فناني أوكرانيا وبعض من محتويات المتحف الوطني والتي من ضمنها أعمال الموسى.

برغم الحفاوة البالغة والاستقبال الحار من لدن أصدقائه وزملائه، فقد وجد الموسى مدينة الحلم ليست كما هي، فقدت زهوها الفني وكذا المستوى الاجتماعي، رأى البؤس وأحوالًا شتى، وتنافرًا بين القوميات واللغات، فاللغة الروسية التي كانت سائدة بين الجميع أصبحت غريبة، ينظر إليها اليوم بعين الشك والريبة، وحالياً الويل لمن يتحدث بها، ومن أراد ذلك فقط همساً، مواقف شهدها الموسى مؤخراً، هي معاناة القسم الأعظم من الروس سكان المدينة الذين أجبروا تدريجياً على ترك لغتهم الأصلية والتحدث فقط باللغة الأوكرانية، اللغة الروسية أصبحت مضطهدة.

والعملة تبدلت والنفوس انحدرت، وأسماء المدن تغيرت، وكثير من المصانع أغلقت واقتصاد في الحضيض والفن أصبح زهيداً، البلاد بجمال طبيعتها ليست مأوى للحالمين، أرض لم تعد كما كانت عليه من قبل.

ظل الموسى يتردد على أوكرانيا من وقت لآخر في مهمات عمل منسقة بين تجار أوكرانيين ورجال أعمال من أبوظبي، وظلت إقامته في مدينته الأثيرية متقطعة وبنفس يضيق به ذرعاً، ولسان حاله أين أنا ورفيقة دربي من أنفاس ذلك الزمن الجميل.

وعند مطلع 2006، رجع الموسى إلى موطنه، عاد الطائر إلى عشه بعد غياب 31 عاماً، لكنه لم تنقطع زيارته إلى أوكرانيا واستمر يتردد سنوياً على المدينة حتى أواخر 2014، وما إن لاحت بوادر الشقاق في المدينة وبعض الأقاليم المجاورة، بين إخوة الأمس وتنامي النزعات القومية الحادة تخلخلت التركيبة الديموغرافية، وأصبح العيش في “جودانوف” لا يطاق.

أقفل الزوجان أبواب شقتهما بدمع العين، والفضول ينبري بسؤال عن مصيرها؛ هل تم بيعها، أجاب الموسى: “لا تزال الشقة مسجلة باسم زوجتي وهي المالك الوحيد لها، وندفع سنوياً مبلغاً من المال للحمايته”، ومن وقت خروجهما من المدينة لم يقم بزيارتها طوال الخمس سنوات الأخيرة.

وسألت الموسى: “هل من الصعب العودة إليها في الوقت الحاضر خصوصاً بعد تقاعدك لتسترجعا الأيام الخوالي الجميلة؟”.

أتى الجواب بلوعة وحزن: “طبعا بعد انفصال أوكرانيا عن روسيا الاتحادية تغيرت الأحوال جذرياً والأوضاع الاقتصادية صارت صعبة جداً، وقبل 5 سنوات دخلت المدينة في حرب أهلية طاحنة، كل ذلك أثر على وضع الفنانين التشكيليين عامة بل على كل فئات المجتمع”.

جمهورية أوكرانيا استقلت بعد تفكك الاتحاد السوفيتي سنة91 كغيرها من الجمهوريات الأخرى، وتغير اسم المدينة من “جودانوف” إلى “ماريوبول” وعادت إلى اسمها القديم بعد الانفصال مباشرة، لكنها لم تعد تلك المدينة الساحرة التي كانت يوماً متألقة في كل شيء، لم تعد منطقة جذب للفنانين ولا استقطاب للمصطافين، بعد أن عشعش فيها الخراب والدمار، أين تلك الأمجاد ربما ارتحلت إلى غير رجعة، هل أصبحت مدينة بلا حياة؟

وقبل لحظات من ترك مدينة مريوبول، وقف الموسى برهة أمام بحر أزوف، ملقيًا عليه سلام الوداع وأخذ رشفة من الماء ماسحاً به وجهه وهامساً للبحر: “إيه يا بحر لا تبح بكل أسراري ولا بأس أن تتحدث عن ذكرياتي الفنية الجميلة والتي بها أعتز وأفخر”.

قال له البحر في لحن الوداع الأخير: “أشهد بأنك كنت محباً للاتحاد السوفيتي ومفتوناً بذلك المجد، أخبرني بعد أن مر عقدان ونيف على زواله، أفصح لي عما دار في قلبك عنه قبلاً وبعداً، بنظرتك للفن والحياة، وأيضاً أخبرني عن مشاعر زوجتك نتاليا: “إيه يا بحر ازوف كم تحممت في أحضانك، كم متعت ناظري بسحرك، كم أسكرتني رائحتك الآسرة، وكم مشيت على شواطئك وأنعشني هواك، كم وكم، ماذا أجيبك، وماذا أقول، تضيع مني الكلمات، سأقص لك عن جزء بسيط من مشاعري ولواعج حبي.

طبعاً لم يعجبني ولا زوجتى تفكك الاتحاد السوفيتي، كنا في غاية الحزن والأسى حين انهار، ولم نكن نصدق ما حدث حقيقة بهتنا صدمنا، شل تفكرينا لبعض الوقت، وشيئاً فشيء تقبلنا المتغير على مضض، لكن ضاقت بنا السبل بسبب الفوضى التي سادت سنة السقوط، وأدركنا ما باليد حيلة للبقاء، خرجنا مرغمين على ذلك.

وأخبرك يا بحر عن شيء لم ينقله الإعلام المغرض بأن ملايين من الشعب كانت تتمنى بقاءه وامتداد ديمومته، تم نقل فقط الصورة التي توافق مزاج الإعلام المسيس وليس رأي الأغلبية الساحقة.

يا بحر كان الاتحاد كياناً شامخاً في كل شيء، والعالم بوجوده كان متوازناً، الآن قطب واحد هو الذي يفرض جبروته بالقوة على الجغرافيا والأوطان ومقدرات شعوب الأرض.

نعم من جانب الحياة زمن الاتحاد السوفيتي، هناك البساطة وسهولة الحياة ورخص المعيشة وطيبة الناس اللا متناهية، والتعاون والتكاتف بين أفراد الشعب بابتسامات لا تغيب عن الوجوه، والآن على النقيض.

ومن ناحية الفن، كان هناك اهتمام بالفن والفنانين على أعلى المستويات، وفي جميع مجالات الفنون.

أما الآن حقبة الرأسمالية المتوحشة المدمرة، خربت النفوس وباعت الضمائر، دخلت على الحياة وجعلتها أصعب وأصعب والناس تلهث وراء المادة والقيم التافهة والمنحطة، وكثير من أخلاق الناس في الحضيض، أصبحت المادة تتحكم فيهم، من لديه مال ينظر باحتقار من فوق لغيره ومن ليس لديه يحقد ويكره الذي فوق، والفن تحول إلى سلعة استهلاكية، رخيصة القيمة والمعنى، ماذا أقول بعد، تعبت يا بحر تعبت من سوء المنقلب وسوء المنظر”.

قال له البحر: “هون عليك واتفق معك كان زمناً جميلاً بكل المقاييس، مع الأسف لم تبق منه إلا الذكريات”.

تمتم الموسى للبحر بالتياع: وداعاً أيتها الأمواج، وداعاً أيتها الموسيقى الكونية، وداعاً يا نوارس، وداعاً يا أعشاب البحر.

وكتب الموسى على رمل شاطئ البحر الرطب وهو يهم بالرحيل والشمس عند المغيب: “ليت أحلام الأمس تعود بنا يوماً”.


error: المحتوي محمي