يوم كنا صغاراً قيل لنا إن كلَّ رجلٍ يأتي من عُمان فيه شيءٌ من السحر، إما في عمةِ رأسه أو في الطاقيةِ التي يعتمرها، لا تكاد تفارق رأسه ويخفي السحرَ فيها، وأنهم كانوا يطيرونَ إلينا ثم يعودونَ إلى بلادهم على سعيفاتِ النخيل!
مراتٌ قليلة هي التي زرتُ فيها أرضَ السحرة وكنت أرى كثيراً من السحر، لا سحرَ الشعوذة أو الخفة، بل سحرَ الطبيعة وسحر طيب الأنفس. تتنوع تضاريسُ عمان فلا تكاد تكون في بطن وادٍ إلا رأيتَ بعده جبلاً تعلو سفحه الخضرة، ولا ارتفاعاً إلا بعده انبساطاً يجرجرك نحو شاطئ بحر عمان حيث تغفو الطيورُ المهاجرةُ على ضفافه في فصلِ الشتاء المعتدل البرودة. لا أزال أتذكر أولَ رحلةَ عمل لي لاستكشاف طبيعتها وتنوع صخورها قبل حوالي ثلاثينَ سنة. جبالٌ ترتفع آلافَ الأمتار وتقترب من السحابِ في تكويناتٍ صخرية بديعة الجمال!
لا تحتاج في أرضِ السحرة جوجلةَ الموقع الذي ترغب أن تقصده، فسوف يسلم عليكَ أحدهم ويسألك عن حاجتك وإن ذكرت له المكان قال: اتبعني وسوف تصل وجهتك. الكثيرُ يبدأكَ بالسلام فتعيش المدةَ في سلام دائم. بيوتٌ منتظمة وشوارع متسعة ومتناسقة، تتنقل بين أزقتها كأنك تقلب صفحاتِ التاريخ بين القديمِ والحديث من نمطِ العيش والسكن وتنوع الأعراق والمذاهب والديانات والحضارات البشرية.
لي صديقٌ عرفته منذ زمن في بلاد عمان، اتصلت به وتعرفت من قريب كيف يعشعش الطيبُ في أرضِ السحرة، كرمٌ لن تستطيعَ التملصَ منه إلا بعد الضيافة وبشق الأنفس. هكذا هي عاداتنا نحن العرب في الكرم والضيافة منذ فجر التاريخ، فإن قلتَ للعربي: توقف عن كرمِ الضيافة فأنت تقول له: لا تتنفس، ولكن تكبر تلك الصفة في أنفس وتعلو في علو الجبالِ كما هو حالها في عمان.
أكاد أجزم أن الكرمَ متأصلٌ في أرضِ العرب أينما ذهبت ولاسيما حيث نحن فتكاد عادة إكرام الضيف والغريب أن تكونَ ركناً من أركانِ التقاليد والعرف منذ القدم، وأعتقد أنها لن تنعدم. عاداتُ الكرم القديمة التي ربما يتعجب منها صبيان وصبايا الجيل الحاضر كان منها: إذا كنتَ في سيارةِ أجرة تدفع الحسابَ عن صديقك الراكب معك، وإن كنت في مقهى تدفع ثمنَ القهوة والشاي، وإن كنت في مطعم تدفع فاتورةَ الأكل، وإن كنتَ في دكانِ الحلاق تدفع أجرةَ الحلاقة. كثيرٌ من عادات الكرم لم ولن تموت ولكن تغيرت وتلونت كما تتلون الأيام، فالكرم لن يموتَ في أرضٍ تتنفس من كرم شواطئ البحار.