مر الوقت عصيبًا والجو خانق، الخطى كسيحة والفضاء ضيق، التنفس شهقة صراع والنور ظلام، لا هواء في الهوى والخوف قنطرة المرتابين.
العابرون مكبلون بالكرب والدهماء ذهول، وحدهم الأبرياء يدفعون الثمن.
شهور انصرمت بعد الهول العظيم، تكاد الغمة تنجلي معززة بشد الأزر، وصدى الثورة شعار يرفع لمن نسي رمزه، تذكير دعائي والبوق أحمر؛ “يا عمال العالم اتحدوا” ديماغوجيا ولى زمنها فالعامل أصيب في مقتل!
خطاب لن يبلغ خارج الأسوار مثل ذي قبل، هذر بلا صدى، انكفاء نحو الداخل والحنجرة يباس.
قالوا: لا يأس مع الحياة فالحكمة تقتضي التهدئة..
بث معنوي لروح جديدة وبعث آمال لترميم النفوس الحزينة، استجابات تتقلب بين ظلمة الليالي وانبلاجات الفجر، أحضان بحر أزوف يغسل هموم المدينة، أنغام موج وإشراقة شمس تستعيدان عافية الشعب، الخوض في الأنهار والبحر ملاذات للنسيان، الماء وقود الحياة، ترحل أدران العتمة والأوجاع وتنسلخ من الأجساد المتعبة.
لقد أرخى السهر سدوله، وعادت الابتسامات ترفرف في سماء جودانوف، ضحك اللون بأطياف الفرح والفن حاضر في الميدان.
مرت سنتان والذائقة الفنية عطش يتجدد، جاء عام 88م بعين الرضا للموسى ، فقد أقدم على إطلاق معرضه الشخصي الأول ممزوجا بثنائية التقنية والعنوان مع الفنان “سيرجي درانك” المسماة “خطوط سوداء من العالم العربي”، نظرة متقاربة بينهما بعض الشيء ومتباينة في البعض الآخر، لكن يجمعهما مكان واحد، وهو صالة اتحاد الفنانين الكبرى، يفصل بينهما “استاند – شيتة من خشب” كل جهة تحمل صورة الفنان وسيرته الذاتية، بتقاسم عدد اللوحات، فكل منهما قدم 27 عملا مشغولا بتقنية فن الجرافيسك.
ابن المدينة تغنى تعبيرًا بفلسطين أرض المهد والسلام، مؤكدًا على أهمية الحوار بين الأديان والقوميات وجميع المكونات متعاطفا مع الطفل الفلسطيني، ومتغنيا بالنقوش الزخرفية المنسوجة على الفتيات الفلسطينيات، وداعيا لنبذ العنف والحرب وضرورة التعايش السلمي بين جميع الأطراف، وأورشليم تسكن عواطفه، والتحايا من ريشته مرسلات للأماكن المقدسة امتدادًا من قبة الصخرة والمسجد الأقصى مرورا بالأزقة وصولا إلى دمشق للمسجد الأموي ومشاهد من منازل الشام القديمة، ريشة نقلت بعضا من إحساس صاحبها ورؤيته الجمالية إنه فنان روسي من أصول يهودية، وأغلب اشتغلاته بأقلام الفحم والرصاص.
أما الفنان عبدالستار الموسى فقدم أعمالًا طباعية بالأسود والأبيض وأيضا بألوان الجواش، طرح في البدء مواضيع مؤلمة حيث قدم 5 لوحات عن مذابح صبرا وشتيلا، وأخرى عن أطفال الحجارة.
واستحضر كثيرًا الحنين لبلاده، مستعرضا التراث في تجلياته المعمارية، المنازل الطينية العتيقة نقوشها وزخارفها، تكوينات التقطها من فوق السطوح وبين تلاحم جدران الجيران، عابرا بريشته الأزقة المعتمة “الدوعايس وسكك الفرجان” مستجلبا منها عبق ذكريات الصبا والطفولة، وحملها رسالة حب وسلام للشعوب المسالمة. قدم مشاهد بصرية تحفر في أديم الأرض ومن دب عليها، مقيما أعراسا في الوجدان، كاشفا ملامح أطفال البراءة يلعبون على السطوح وبين الدروب وعن نساء خلقن في كبد، هن البائعات في الأسواق الشعبية، وعن رجال السائرون في درب العرق والشمس، عوالم لوحات جديدة على عيون الحضور، أخذتهم تفاعلا وسفرا لأوطانه، وتركت أثرا في ذاكرة مفتتح المعرض النحات “خاربيت” ترافقه زوجته الممثلة “لود ميلا ” التي أثنت على أجواء لوحات الموسى وكأنها تعيش تراث السعودية كمسرح مفتوح أمامها.
حظي المعرض بحضور شعبي معزز بالنخب المثقفة، تلبية للسمعة المرموقة التي يتمتع بها الفنانون وكذلك هيبة المكان الذي يقدم كل ما هو ناضج وراق وذا مستوى عال.
سألت الموسى بعد الانتهاء من إقامة المعارض التشكيلية وخصوصًا الشخصية، هل هناك إتيكيت فني متبع؟ أم الفنان يحمل لوحاته ويمضي وحيدًا والسلام، أجابني بابتسام: “أولا كل معرض يقام في أي مكان في الاتحاد السوفيتي بدءًا من الافتتاح لآخر يوم من عمر المعرض، الحضور لا ينقطع، حضور ليس عاديا ولا عابرا، وإنما يفيض تأملا ويطيل النظر ويقيم حوارا مع الأعمال والفنان.
وبالنسبة للانتهاء من إقامة المعرض يوجد تقاليد متبعة وجميلة أثناء الإغلاق وهي أن يحضر جميع المهتمين بالمعرض من فنانين ومعجبين ويبدأون بإلقاء خطابات مختصرة بالتمنيات أو النقد والتقييم وتكون هناك شخصية معتبرة تعلن عن انتهاء المعرض، بعدها يتوجه أصدقاء الفنان والضيوف ويدعونهم للاحتفال معه إما في مطعم أو المرسم أو لدى أحد من الأصدقاء لتناول الكيك والمشروبات، ومواصلة الحديث عن لوحات المعرض والأفكار الجديدة لدى الفنان والمقترحات من قبل الحضور، جو جميل يعيشه الفنان بمثابة تتويج لمنجزه وتجربته الفنية ويشعر بالسعادة على هذه الحفاوة”.
وعن حالة التأمل العميقة من الحضور التي أشار إليها الموسى تحضرني مقولة رائعة لرسام شعب الاتحاد السوفيتي سرغي كوننكوف: “إن المرء لا يعيش منتوجات الفن التشكيلي في قاعات المتاحف والجاليريات الفنية وحسب، فما أثمن الحوار الصامت على انفراد حين تنتعش اللوحة والتمثال في الفؤاد!”.
كيف يترك الفن أثرا فينا ذلك هو السؤال؟
أنشطة فنية تتألق وعروض تشكيلية تجوب المدن السوفيتية، تتوالى المعارض هنا وهناك، بتجارب متنوعة، وخبرات تتبادل بين حين وآخر وأهل الفن في ود ووئام، لكن إيقاع الدعم لاتحاد الفنانين بدأ يتراجع، لأن ثمة متغيرات تطفو فوق السطح ومن تحته. ويتساءل مورخو الفن السوفيتي سنة 1989 من الذي أخرج اللوحات المخبأة طوال سبعة عقود حبيسة مخازن المتاحف المحجوزة بين أجنحة الظلام، ماذا يوجد بها ؟ لماذا كانت محظورة؟! السبب يعود لانتمائها للمدارس الفنية المتعددة، من أظهرها الآن للعلن؟ من كشف عنها الغطاء؟ والمفاجأة غير المألوفة قدوم المعارض الغربية، التي بدأت تنشط وتنشر فنها الحداثي في ربوع العاصمة موسكو؟! ما الذي يحدث وسط دهشة الجميع وأهل الفن، أصبح الكل يرى ما كان لا يرى قبلا، المحجوب عن الأعين سنينا، هل بدأت زحزحة خطاب الواقعية الإشتراكية باستقبال التجريدية والسريالية والتكعيبية وغيرها من المدارس الفنية، من أوجد المتغير وأفسح كل هذا، إنها “البريسترويكا”، وما أدراك ماهية، نار بلا وهج، هي من قلبت الموازين!
هل هي الضارة النافعة أم النافعة الضارة؟
فرحت عيون الفنانين باستقبال ممنوعات الفن المحجوبة عنهم عقودا، وتساءل بعضهم: هل هو فرح مقلوب أم فرح محزن؟
يا قارئي البخت أين يكمن الحظ لما تخبئه الأيام عن القادم المجهول؟!
تلوح في الأفق طيور الشؤم قادمة وحاملة معها من الحدود الغربية نبأ سقوط جدار برلين، وقلاع أوروبا الشرقية تترنح زوالًا، وشعوب تريد الخلاص من ربقة الهيمنة والاستبداد ونشدان الحرية، فهم جوعى للهمبرغر وعطاشى للكوكاكولا ومغرمين بتخمة العم سام وموسيقى الروك والجاز. حلف وارسو يتداعى ويلفظ أنفاسه الأخيرة، جمهوريات البلطيق تطالب بالطلاق الحضاري دون إراقة دماء، دب الرعب من تحت أرجل الدب، والكبرياء في خنوع ، بدأ العرافون والمنجمون يضرمون النار في الهشيم،
بوادر الرياح تنذر بالتصدع.
حل عام 90 ومعه حلت اهتزازات عنيفة لا تتوقف، بدأت لعبة الدينمو تتوالى سقوطًا من بلاد ما وراء النهر، إنها جمهوريات الأتراك وتبعهم جمهوريات القوقاز، وبعض من السلاف، كل ينادي بالاستقلال وقودهم الروح القومية التي أوجدتها سلفا روح الحكم الذاتي المناطقي والسياسات اللامركزية الخائبة، وسط بنية اقتصادية متهالكة مهترئة تستغيث الويل، أرهقها سباق التسلح المزعوم وحرب أفغانية ضروس، وعزل غربي وهجوم فاتيكاني، عوامل اجتمعت مثل الحراب دمرت الكيان وأحالته إلى خراب.
فجاء عام 91 صائحا باكيا ثائرا بأصوات هادرة صاخبة كجحيم معركة، تصدع، تخلخل، تفكك، صواعق مزلزلة نزلت طوعا وكرها من كل حدب وصوب، وانقضت الجوارح على الدب وأحالته فريسة يئن من بين المخالب، مزقته إربا إربا، وذبحت الجسد متشفية به دون هوادة، والشامتون يقولون: لا حسد، تقطعت جميع الأوصال وتناثرت في الحضيض.
سقطت الإمبراطورية بكامل جبروتها وعنفوانها وشموخها وتاريخها وهيمنتها بعد أن سادت لـ70 عامًا من البناء والنضال والحروب على جميع الأصعدة، سقطت سقوطًا مدويًا هز كل أرجاء المعمورة فرحا وحزنا، بهت الحالمون بها وتلاشت أحلامهم، وقلعت تماثيل ماركس وإنجلز ولينين وستالين، وجرجرت في الشوارع والميادين، ولا عزاء لمن قلدهم المرجعية، وأخيرا شيع الاتحاد السوفيتي إلى مثواه الأخير بكفنه الأحمر الممزق، بعد أن حفر قبره بيده منذ عام 1986 باتباعه نهج “البريسترويكا” الطامة الكبرى التي قادها أقزام القادة وصغار الحزب، كيان كان عملاقا في كل شيء وري الثرى وانتهى كل شيء كأنه حلم ليلة صيف، ومعه تبخر حلم الماركسيين، بإدامة الجنّة على الأرض.