ماضينا.. نظام حياة!  

بعيداً عن سموم الغرب وبريق المدنية نتحدث اليوم عن التقاليد والعادات ونظم المعيشة وطابعها المميز وكل شيء عن الماضي الذي فقدناه، فلابد لنا من وقفة هادئة نستعيد أمجاد ومذاقات الأمس، ونسترجع فيها أياماً لا مثيل لها.

لسنا بجانب الدعوة إلى مقاطعة كاملة للحضارة الغربية والتطور العلمي ونبقى متخلفين عن ركب المدنية التي لعبت دوراً حاسماً في تطور البشرية والتي حققت من التقدم المادي والعلمي ما لم تحققه حضارة قبلها.

ليست الحضارة الغربية شراً خالصاً أو خيراً خالصاً، وكما أن هناك من لا يرى سوى مساوئها، فإن هناك من لا يرى سوى محاسنها، والموقف الصحيح أن نحسن في اختيارنا ونتعلم من الغرب المنجزات العلمية والتقدم التقني، ودعوة رفض الحضارة الغربية أو عصر العولمة تنبع أولاً وقبل كل شيء من خوف على الدين والتقاليد والعادات، وثانياً أن الثمن لا يكون لغتنا وأصالتنا وكرامتنا وصحتنا.

هناك جوانب عديدة في الحضارة الغربية نستطيع أن نسميها الجوانب الرائعة، وهذه جوانب مفيدة تخلصنا من التخلف.

قدمت كل هذا لأقول: ليس كل جديد على القيم والعادات التي تعارف عليها ماضينا يصح أن يستحق مقتنا أو ازدراءنا، إننا بهذا نحاول أن نعرقل عجلة الحياة في سيرها، وهي محاولة عابثة.

لقد استطاعت اليابان أن تصبح دولة صناعية من الدرجة الأولى، ومع ذلك فلا يزال اليابانيون يأكلون السمك النيئ، ويستخدمون أعواد الخشب في تناول طعامهم، ولا تزال المرأة اليابانية ترتدي لباسها الوطني المميز.

باختصار، يجب ألا نقف من الحضارة الغربية موقفاً مبنياً على رفض جميع معطياتها، بل يجب أن نقف موقفاً وسطاً فلا نقر بالكامل، نتأمل ونقتبس من علومها ما ينفعنا، هذه النظرة المتوازنة التي نبني عليها تقدمنا دون المساس بقيمنا وعاداتنا الأصيلة.

فالتقاليد والعادات هي مقومات الحياة إذا تأصلت بات المجتمع يتمتع بالسلوك الواعي، والعمل الفاضل، نتنفس الخير ونمشي في دروب الحياة بثقة واطمئنان.

كانت لنا في الديرة ذكريات مع الحياة، قديمة في عمر السنين، لكنها قريبة من القلب والخاطر، كأنها البارحة، فإذا وفقنا لاسترجاعها فإنها تصبح لقطات جديدة، لأن أحداً لم يراها بذات العين ونفس الوجدان سوى صاحبها.

في الماضي كان الاعتماد الكلي على الموارد المحلية لسد الاحتياجات الغذائية والحياتية، وكان التمر واللبن والرز والحنطة والسمك هي مكونات الغذاء السائدة وكانت واحات القطيف والأحساء تنتج المحاصيل الزراعية ما يكفي بل يزيد غذاء سكانها.

لا يكاد يخلو منزل من حظيرة لتربية الحيوانات الزراعية والطيور، وبئر ماء، ومخزن لتخزين قلال التمر والرز والحنطة لاستخدام أهل البيت، تلك هي الكنوز الغذائية التي تمتع بها آباؤنا وأجدادنا، موائدهم مليئة بخيرات الطبيعة.

زمان كانت الأبواب مفتوحة للضيف، يستقبلونه ويحسنون ضيافته ويسعدون بتواجده رغم عسر الحياة، والمرأة تعد المائدة بطبيعتها العفوية، وبساطتها المعهودة، ولمساتها الطيبة دون كلل أو ملل أو عناد تسعى من وراء ذلك رضا الله.

زمان كانت المرأة مليحة لم تعرف المساحيق، تتحلى بالبساطة غير المتكلفة تعتمد على جمالها ورقة أنوثتها أكثر مما تعتمد على البهرج ورداءة التكلف وغثاثة الذوق ما يسيء إلى طبيعتها التي تميزت بها أو عاداتها الخاصة.

زمان كانت المرأة حكيمة تستخدم عقلها هو سر سعادتها، وأسرع الطرائق وأفضلها لسانها، وهناك أسرار أخرى للسعادة منها الصبر وتحمل المسؤولية، والحفاظ على صحة أسرتها، فينمون نمواً طبيعياً سوياً بالغذاء الطيب الصحي، فالكثير منهن ماهرات في الطبخ، الواحدة تطبخ طوال النهار ومع ذلك لا نراها تشكو وتتأفف من سوء الحظ، وتندب قلة التقدير، لأن بيتاً فيه امرأة محنكة ذكية صالحة لا يمكن أن يُرْهن أمنه حياتياً وغذائياً في يد أجنبية!!

في الماضي المرأة شغوفة منذ نعومة أظفارها بالطبخ لا تمل ولا تشتكي وتجد في الطبخ متعتها وقناعتها، تكرس جل وقتها لبيتها وأسرتها، وتشعر بالسعادة، فلا عجب ما دامت تدير أفراد أسرتها بحكمة وتعقل، والبنت تتوارث من أمها وجدتها طرائق الطبخ بأدق التفاصيل.

أمي.. أيتها السيدة الراقية أرى في قلبكِ واحة خضراء تحتضن كل الصعاب، صدر مليء بالحب والثقة والإيمان، أمي التي غذتنا من معين القيم والمُثُل شكلت مدرسة قائمة بذاتها ونهجاً متميزاً في إدارة شؤون الأسرة، تجيد الكثير من طرائق طهو الأكلات، كنا صغاراً ملأت أجوافنا لقيمات نظيفة طازجة، تسعد عندما نتحلق حول المائدة، كان الدخان يتصاعد مع عبق روائح الطعام لا تزال مخزونة في الذاكرة كأجمل دخان وأروع رائحة.

• طبخ الطعام لا يعتمد على مجرد إتقان وإنما لا بد من توافر شيء آخر مهم نسميه “النفس”، بمعنى أن المذاق يختلف من شخص لآخر، رغم التزام كل منهما بنفس المقادير.

زمان عندما نجلس على الطعام، كنا نبطش بأي صحن نجده أمامنا ونسارع بالتهام ما يتبقى في يدنا، بل كنا نلتقط بقايا الرز وفتافيت الطعام المتبقية على السفرة أو الساقطة على الأرض.

في الماضي كانت الأحوال بسيطة، وبعض الأسر تعيش تحت خط الفقر، ولن تستطيع توفير الطعام لأفرادها، ولذا لم يكن بمقدور الكثرة من الناس تناول اللحوم والدجاج والأسماك يومياً، وكان الاعتماد على الحبوب والخضراوات والخبز، والتمر هو مفتاح الطعام، كانت العملية مقننة ومحسوبة.

في الماضي كانت الدجاجة تعتبر ثروة، الدجاجة البياضة كالنخلة المثمرة، محصولها وإنتاجها مستمر ومتواصل.

بالرغم من عوزنا وضيق ذات يدنا وشوقنا إلى تناول لحم الدجاجة، ونكن الود لها، لا نراها على مائدتنا إلا في الأعياد والمناسبات، لها ارتباط بالمستوى الاجتماعي.

كان الغذاء قليلاً ولكنه صحي، إفطار فغذاء فعشاء، تتجمع الأسرة رغم كثرة أفرادها على مائدة واحدة، إذ لم يعد مستغرباً أن ترى مشهداً أكثر تلاحماً، أسرة تعيش في مسكن واحد تضم الآباء والأبناء والأحفاد على السواء، تجمعهم سفرة دائرية من الحصير، والتحلق التلقائي الحميم على صحن الغداء، في وقت مُحدَّد متعارف عليه، وأحياناً من دون نداء، والتأخر عنه يعني فاتورة من الجوع تدفعها المعدة لقاء تخلف صاحبها عن موعده، وكذلك الحال في العشاء، أثبت دوراً اجتماعياً وتربوياً في حياة الأسرة.

اليوم الكثير من الناس يدفعون باتجاه العودة إلى “مطعم الأم” يريدون إعادة الاعتبار لكل ما فُقِد، ويبقى بعض أفراد الأسر إلى اليوم معتمدين على مطبخ الأهل.

لا يمكن نسيان الماضي الذي يحمل ذكريات الطيبين الكرماء هم في نفوسنا ومشاعرنا، إنهم أمهاتنا.

في الماضي كان السمن البري أو الشحم “الودك” هما المكونان الأساسيان في الطبخ.

إذا لم يكن الطبق الرئيس مشبعاً بالسمن البري أو البلدي، السمن الحقيقي، سمن الآباء والأجداد الذي يأتي من البادية، فلن تملأ عيونهم مهما قدمت من طعام.

زمان كنا نلعق الدهن دون وجل، وكان الشحم زينة المائدة وعلامة اليسر بل ربما الترف، وكان اللحم لدينا لا مذاق له دون شحم التي تعطي حبيبات الرز نكهة دسمة لا تقاوم.

زمان كان الخباز ابن البلد، كنا نجلب الخبز العربي إلى موائدنا منه، وكان يتقن الخلطة والتحوير، ونعرف اليد الذي كونته والنار التي أنضجته، وكان الدقيق مصنوعاً من حبوب الحنطة الكاملة، وتحضر العجينة من الليل لتتخمر طبيعياً “التخمير المتبقي” ويضاف إليها السمن، وشعلة التنور من كرب النخيل، وكان القرص لذيذاً وطازجاً وكبيراً يشبع رجال، والمرأة تنتظر خلف دريشة من الخارج محترمة محتشمة ويقدم دورها على الرجال.

رحم الله أيام زمان عندما كنا نترك الرز في قدره معلقاً الليل بطوله في الملالة، ما كنا نتسمم أو نمرض.

في داخل البيوت أو بعضها نجد آبار مياه تستخدم للشرب تسحب وتحفظ في أوانِ فخارية “الحِب” وتتميز بحفظ الماء وتبريده في فصل الصيف، هي مياه منعشة صحية طبيعية “حية مشبعة بالأكسجين”.

زمان كانت أغلبية الناس لم يكن أمامهم – وقسْراً – سوى المشي وقضاء مصالحهم على أرجلهم، وكان ذلك يحرق كل ما ينزل إلى جوفهم من طعام، كانت هناك صحة وكانت هناك رشاقة لا مثيل لها.

في الماضي ونحن شباب كنا نقطع على أقدامنا من البيت حتى المدرسة ذهاباً وإياباً مسافة أكثر من أربعة كيلو مترات، ورغم هذا المشوار كنا نلعب ونجري ونذاكر وبعضنا كان يذهب ليساعد والديه أو يلعب مع أهل الحي.

زمان كنا لا نأكل وننام بس، بل نبذل جهداً عضلياً مستمراً يجعلنا نعرق ونتعب.

في الماضي كان النعاس والرغبة في النوم وبعمق حتى الصباح ولا نشتكي من أرق ولا نعرفه، ننام في سابع نومة، عالم النوم اللذيذ لا متاعب فيه ولا تفكير.

كل شيء له صلة بالماضي لذيذ وجميل، التمسك بالقيم والعادات الطيبة، أحياناً نتذكر لذة الطعام وارتباطه بذكريات جميلة جعلت مجرد تذكره لذيذاً، وكم يبحث أحدنا وكم يقضي أياماً وأياماً باحثاً عن تلك اللذة فلا يجدها.

هناك ظواهر لم تكن في الحسبان، ومنها التغير في العادات والتقاليد والأعراف، وتبدَّل كل شيء في المزاج النفسي والتكوين الفكري التي أجمعت كتب الأخلاق على اعتمادها دون مواربة والتواء، لا يخفى على أحد أن ما أنتجه هذا الوضع من توتر وقلق وانتشار الأمراض النفسية والجسدية.

إنه عصر ممزق نعيشه، فكل العادات والطبائع والأخلاق واللغة تغّيرت، والعواطف تبلدت، وتحولت إلى معنى مادي لا قيمة له ولا رجاء.

جيلنا يدفع الثمن بعد أن نعمت أجيال سابقة بغذاء طبيعي من أراضيهم وبيدهم.

فهنيئاً لآبائنا وأجدادنا عاشوا حياة رغيدة، في عصر الطيبات، في أحسن الأزمان، بلا توتر وقلق وأمراض، ولا يوجد ما يعكر صفو الحياة.

تبقى الإشارة إلى أن كل ما يجمع من أساليب عيش، وأنماط تفكير، وسلوك اجتماعي، يعود في بعضه إلى الحياة التي عاشوها أجدادنا، والرغبة في الحفاظ عليها حيثما أمكن.

• حبينا تلك الحياة بما فيها من ذكريات.
• حبينا تلك الطبيعة بما فيها من جمال.

• صورة مشرقة رائعة عن ماضي أجد فيه أثمن كنز وأغلى شيء أحتفظ به.

كان ذلك نظام حياة يتسم بالبساطة وراحة البال وهدوء حال.

منصور الصلبوخ – اختصاصي تغذية وملوثات.


error: المحتوي محمي