ما قبل النفط.. «تأكير» النخيل في القطيف بعملة «القلة»

في زمن النخيل فترة ما قبل النفط، كان الفلاح يبحث عن “نخل” ليستأجره حتى يبدأ رحلة الكدح والعيش مع من يعيله فيه، ليمضي وقته بين منجل ونخلة، وما إن يرى “النخل” المناسب له حتى تتم اتفاقية شروط عقد الإيجار، والتي من بينها سعر الإيجار السنوي ويُحدد بعدد قِلال التمر لعدم ملكية الفلاح للمال، تزيد وتنقص بحسب النوع، إن كان نخلًا، أو مزرعة، أو بستانًا، كما للمساحة والموقع وطمع المالك دور، فمن الممكن أن تكون 50 قلة أو تزيد على الـ500 قلة.

ويعرف الباحث في التراث عبد الرسول الغريافي، القلة بأنها عبارة عن زنبيل خوصي طويل يصل ارتفاعه لأكثر من 70 سم، وهو أسطواني الشكل قطره لا يزيد على خمسين سم، وهو محاك (مسفوف) من الخوص بالسفة الخشنة، أي الحبة الكبيرة، ويستعمل لحفظ التمر فيه، وقبل أن يوضع فيه التمر يسمى ظرف وجمعه ظروف، وبعد أن يعبأ بالتمر ويربط يعرف بالقلة، والقلة عادة تعبأ بوزن مقداره تمر منان قطيفي (والمن = 16 كيلو)، أي أن وزن القلة يكون 32 كيلو.

التأكير
يذكر “الغريافي” أنه يطلق على تأجير النخل لقب الـ”التأكير”، والكلمة آتية في الأصل من تأكر الأرض: وهو حرثها، وفلحها وحفر البئر فيها، فمن يتأكر الأرض أي من يقوم بالعناية بها ليتسنى له الاستفادة من خيراتها، فأهالي القطيف استخدموا هذا المصطلح منذ القدم، وقد كتب عنها في عدد من المعاجم العربية، وفي معجم الوسيط وضحت بـ: أكر 1-الأرض: حرثها وزرعها. 2-الأرض: حفرها وعمقها.”

ويضيف: “ولا يدفع المال في مقابل التأكير إلا ما ندر، والمشهور بالدفع هو قلال التمر، ويسمى المقابل للتأجير أو قيمة التأجير “صُبرة” بضم الصاد”.

ويوضح “الغريافي” أن تأكير النخيل (البساتين الكبيرة جدًا) قد تصل صبرتها إلى 500 قلة أو أكثر، كما هو في تأكير نخل الهمال بالتوبي، والمالك يشترط على الفلاح بالإضافة إلى تأكير نخله، أن يقوم بعمار النخل (أي حرثه) مركزًا في داخل الضواحي، والضاحية هي حوض للزرع وتعديل الجوابير (المسافة بين الضواحي)، وتحضير النخلة ورعايتها من تجليس وترويس وتنبيت وتحذير وغيرها.

ويعود انتهاء عهد الإيجار بالقلة إلى قبل ٦٠ عامًا على نحو التقريب، وغالبًا ما يستأجر الفلاح “النخل” لمدة طويلة تزيد على الأربعين عامًا، وعن طول مدة الإيجار يعلق المهندس مصطفى سنبل، المهتم بشأن أوقاف عائلته قائلًا: “بسبب طول مدة الإيجار حدثت في السابق مشاكل عديدة نتيجة تغير الأجيال، فتتغير المسميات وتنسى الأحفاد والأفراد من هو المالك الحقيقي للنخل، فيحسب الناس سكان النخل هم من يملكونه ويشتهر باسمهم ويختفي المسمى الأصلي، لا سيما إذا ضاعت الأوراق الرسمية، ومنها تحدث المشاكل وتبخس الناس حقوقها”.

ويكمل “سنبل”: “من الأفضل أن لا تزيد مدة تأجير “النخل” أو الوقف على الـ١٠ سنوات”.

وعن أسعار التأجير الحالية، فتختلف بحسب استخدام المستأجر إن كان استثماريًا أو للزراعة، ويحسب السعر بحسب المساحة والمدة، فيؤجر النخل الصغير ذو مساحة الـ٢٠٠٠ متر بـ٦ آلاف ريال للسنة تقريبًا، والأجرة في حالة ذبذبة تزيد وتنقص على حسب الرغبة أو الأهمية والمستوى.

وغالبًا ما يستخدم المستأجرون النخيل في بناء صالات الأفراح أو المنتجعات التجارية.

حياة النخل
السكن في النخيل يفرض على أسرة الفلاح العمل كفريق واحد وقائدهم رب الأسرة، حتى الأطفال يوكلون بمهام ولو كانت محدودة وسهلة إلا أن دورهم لا يمكن استثناؤه، فتراهم يقومون بمهمة التنظيف وإطعام حيوانات الحظيرة بجانب الكبار المنغمسين في الحرث والحصاد ومتابعة أعمال الفلاحة.

الراتب
يعد الراتب جزءًا من شروط الإيجار، فيجهز الفلاح المتأكر عند كل موسم أو في كل يوم جزءًا من إنتاج “النخل” في سلة ليوصلها إلى بيت المالك، تضم المنتوجات المستخلصة من حيوانات الحظيرة كالبيض والحليب والدهن، إضافة إلى الفواكه الموسمية من رطب ورمان، وتين وليمون وغيرها بحسب موسم الفاكهة، وكل ما تحمله السلة يسمى “الراتب”، فيما يشترط بعض الملاك على المتأكر أن يقيم وليمة خاصة في البستان كل سنة خصوصًا إن كان النخل كبيرًا، وفيها يدعو عائلة المالك، وللمالك أن يدعو من يشاء من أهله وأصدقائه لتلك الوليمة.

قحط الفلاحين
بعد مواجهة مشكلة نضوب مياه عيون القطيف – والتي تحدث عنها الشيخ عبد الله الخنيزي في مقال كتبه عام ١٩٥٦م – إضافة إلى اتجاه الفلاحين للعمل في الشركات وإقبال الأولاد على الدراسة في المدارس النظامية، عزف الفلاحون عن استئجار النخيل للكدح الشاق فيها، وغضوا النظر عن السكن بها وانتقلوا إلى البيوت بعد امتلاكها، فالعمل في الشركات أوصلهم إلى حالة الترفيه التي قد تنافس ملاك البساتين أو ما يسمون “الأكابرية”.

وهذا الأمر أدى إلى انهيار أسعار الإيجارات، فأصبح حال الملاك هو البحث عن أي فلاح لإقناعه بأن “يستر على نخيله” ويهتم به بأي مبلغ حتى ولو كان زهيدًا جدًا، فيما صار البعض يعطون المال للفلاح لدفع الزكاة عنهم، طلبًا لحفظ الحلال، وخوفًا على ضياع النخل وإهماله أو تحوله إلى شارع أو تجمع للفساد.

ومثال ذلك في قرية الجش بعد أن نضبت المياه فيها ومات النخيل، أصبحت العادة الغالبة للملاك هي إعطاء الفلاحين المال وطلبهم الاهتمام به، أما بعض النخيل الذي تم بيعه واشتري مكانه نخيلًا في قرية أخرى فرغم زهد إيجاره إلا أنه أعلى.


error: المحتوي محمي