إطلالة قلبية

ورد عن أمير المؤمنين (ع): “بحسن النيات تنجح المطالب” (غرر الحكم ٣٧٠٣).

ما هو ذلك الرابط بين اتجاه النوايا القلبية إيجاباً وسلباً، والتأثير على حياة الإنسان وتألقها أو خوضها في خضات وعراقيل تلون مجمل علاقاته؟

يكمن الفرق ما بين من ينظر للناس وكأنهم وحوش كاسرة ينتهزون الفرصة للانقضاض عليه وعلى ما يملك، وبين من يتعامل مع الناس بواقعية في وجود الخير منهم والعدواني، ولكنه يؤمل الخير من منطقهم وسلوكياتهم، ولا يدع الشك يتسرب إلى نفسه فيحيله لمعمل تأويل واتهام للآخرين.

التشكيك في نوايا وتصرفات الغير مرض يصيب البعض فيلون حياته وعلاقاته بمبدأ الريبة، فيتطاول على ما يسمعه من حديث ليفتش بعين الشك في ضمير المتحدث، بل ويبث هذه التشكيكات في محيطه ويجعل من المسلمات وجود نوايا خبيثة بنحو دائم أمام أقنعة الحمل الوديع التي يتلظى خلفها المتحدثون، وهنا نصل إلى بؤرة خطيرة تتمثل في الظنون السيئة وجعلها معيار التعامل والنقاش، وبعدها من الذي يثق بالآخر في حديثه وسلوكه، مما يعني تقويض أسس التكاتف المجتمعي، إذ متى ما سادت الظنون والريب أدى ذلك إلى تفكك عرى العلاقات الاجتماعية وتبلد الحس الوجداني تجاه الآخرين.

وقد يتعلل البعض بتقديم التشكيك في النيات بما يراه من واقع صعب تكثر فيه وجوه المكر والخداع والكذب حتى أصبح ذلك عاملاً مشتركاً في الخلافات والخيانات، فإذا كانت الأمور بهذا المستوى من السوء أليس من حقه أن يجعل له درعاً واقية من مكر الآخرين بافتراض سوء النية فيما يتحدثون ويتصرفون؟!

كما أن العقل المتزن ألا يدعو إلى أخذ الحيطة والحذر وافتراض الاحتمالات قبل الإقدام على فعل أي شيء، وهذا مؤداه أن تتحسب لنوايا الآخرين قبل أن تقع فريسة سهلة نتيجة لثقتك الزائدة.

والحقيقة أن هناك خلطاً وعدم تمييز في مفاهيم يتم تحريف معانيها، فالحذر لا يعني البتة التشكيك في نوايا الآخرين والاتهام الدائم لهم، بل الحذر كمفهوم إيجابي لرسم طريق الاتزان والنجاح هو وضع القوانين والنقاط على بساط الوضوح والشفافية، وهذا ما يقيك الوقوع في ثغرات ومواطن زلل قد يستغلها ضعاف النفوس، وكذلك الثقة الزائدة تعبير عن تغليب العاطفة على صوت العقل، وأما التشكيك في نيات الآخرين فهو نوع من التعدي على شخصياتهم بما لا يقبله أي عاقل، كما أن ضرره يلامس صاحبه بقوة، وذلك أنه يعيش أوهاماً وتصورات تفصله عن الواقع تماماً، وتنثر عليه آثار هذه الريبة من أحقاد وكراهيات مصطنعة، وتقيم حاجزاً ما بينه وبين الناس لإقامة علاقات ناجحة ومستقرة.

النية الحسنة أو السيئة نافذة نطل بها على شخصيات الآخرين وطريقة تعاملنا معهم، فالنية الحسنة ترفع عن كاهلنا ثقل ضغوط الشكوك والتعامل السيئ معهم، وتفتح لنا آفاق العمل والإنجاز وإقامة العلاقات المستقرة والناجحة، بينما وضع الآخرين تحت مجهر الشكوك الدائمة سيولد لدينا إحساساً سلبياً تجاههم، ويظهر لهم أننا شخصيات لا نثق بالغير ولا نؤمن بما يصدر عنهم من أفكار أو اقتراحات أو سلوكيات.

فلنؤمن بهذه الحقيقة وهي وجود أطياف مجتمعية متنوعة تتنوع بمظاهر وأشكال عديدة، ولسنا أوصياء على أحد لنخضعه لما نؤمن به ونحجر على الغير الإبداع والإنجاز وفق نظرته، فلننفتح على علاقات متنوعة وواسعة لا نحتكر فيها التوافق على فئة معينة، ونبدد المخاوف من مستقبل نواجه فيه خداع أحد بإحكام فكرنا تجاه ما نراه ونسمعه، بدلاً عن اتخاذ الشكوك الدائمة درعاً واقية نحمي بها أنفسنا، فلنحفز قدراتنا العقلية وذكاءنا الاجتماعي فنقرأ بصورة واضحة من حولنا، ولنكتسب محبة الآخرين وثقتهم بما ينطلق بالنجاح من خلال أنفسنا ونظرتنا الإيجابية وتجنب الظنون السيئة، ولنحكم قاعدة التعامل المثلى مع الآخرين، إذ ما نطلبه منهم من حسن التصرف ونزع الريبة وتوقع الشر من الغير فليكن مثله يصدر منا، فلا أحد يقبل التعامل معه بالخضوع لمجهر الشكوك المريضة.


error: المحتوي محمي