انشغلُ أهلُ بيزنطة “القسطنطينية” في عهدِ انحدار وتدهور حضارتها بما هبَّ ودبَّ من الجدلِ الذي لم ينفع سوى من كان يدفعهم نحو ذلك الجدل الذي نسميه نحنُ اليوم “الجدل البيزنطي”. جادل أهلُ بيزنطة في هل الملائكة ذكورٌ هم أم إناث؟ وما حجم إبليس؟ وما هي طبيعةُ المسيح؟ وبينما كانوا منشغلين بمناقشة أمورٍ فقهيةٍ ولاهوتية لا طائلَ منها، أُسقطت المدينةُ ولقب من أسقطها “الفاتح”.
لاشك أن الانشغالَ بمعرفة جنسِ الملائكة عن إدراكِ مهامها تجاه البشر والعالم، والانشغال بحجم إبليس بدلاً من الانشغالِ بحجم الامتحان والدور الذي يؤديه في غواية البشر، والانشغال بطبيعةِ المسيح بدلاً من تفعيلِ تعاليمه أمثلة قديمة جديدة من المصائدِ التي تصنف في خانةِ الجهد المهدور، الذي يتجدد في نفوسِ الأفراد والمجتمعات! فمن المؤكد حتى لو كان حجم إبليس في حجم الذرة، فإن ما يصدر عنه من خطايا فهي تعم الكون كله ويصبح حجمه بحجم المشكلة والكارثة التي جلبها!
وإن كان بعض الجدل له نصيبٌ في الزمان والمكان، فلن يعدو أن يكونَ من الصنف المهم وليس الأهم الذي يجب النقاش والجدل فيه الآنَ وليسَ غداً، فكما قال عليُّ بن أبي طالب (ع): “من اشتغلَ بغير المهم ضيع الأهم”.
ولكي لا تضيع بوصلتنا أفراداً وجماعات من نافلةِ القول أن نعتني بتراتبيةِ الأفكار والأعمال التي يجب أن يقومَ عليها ما نبنيه من الأهدافِ والمنجزات! كل انشغالٍ عن الأهم هو احتكاكٌ وقوة تحدث من تحتِ أقدام الفرد والمجتمع في حركتهِم فوقَ صفحات الانجاز والحضارة باتجاهٍ متعاكس تقلل من التلاحم وتحول الطاقةَ الإيجابية إلى كميةٍ من الحرارةِ الحارقة.
الجدل المنطقي في كل العلاقات هو الذي لديه أقل معامل احتكاك ويهدر أقلَّ طاقة ممكنة، وبالتالي ينصرف كل الجهد وكامل قوة الفرد والمجتمع والأمم في التقدم على عكس ما يفعله الجدل البيزنطي! من المهم إخماد ذلك الجدل البيزنطي في الأسرة قبل أن يدمرها، وفي الصداقةِ قبل أن يقطعها، وفي كل إنتاجيةٍ وكفاءة دون أن يقللها ويقتلها.
اختلف الناسُ في أشياء كثيرة وهامة، فلا يمكن لجدلٍ عقيم وترف الفكر أن يجمعهم، فكأن الله يقول للنبي محمد (ص): “ولو شاءَ ربك، يا محمد، لجعل الناسَ كلها جماعةً واحدةً على ملة واحدة، ودينٍ واحد ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩)﴾: سورة “هود”.