بين خربشات الطفولة وكفي قريبتها ولدت الموهبة، ومن كفي القريبة نفسها بني اسمها كواحدة من أشهر فنانات المنطقة في حرفتها، تلك الحرفة التي لا تحتاج الكثير من الأدوات غير حفنة حناء وأقماع بلاستيكية وبعض الإضافات البسيطة لتعزيز اللون، والكثير من الإبداع والصبر.
أمل المخلوق، اسم أصبح يمثل ختمًا معروفًا عند الكثيرات في المنطقة ممن يعشقن الحناء وزخرفته، عشقت حرفتها وحاولت أن تطور فيها، حتى أصبحت بعض الجهات الغربية تقتبس من نقشها بأفكار متطورة، كما أنها أصدرت مؤخرًا كتابًا خاصًا يخدم بنات مهنتها والراغبات باحتراف تلك المهنة.
بداية مرسومة بأعواد ثقاب
بدايتها كانت في عمر الثامنة، رسمت حلمها على كفي ابنة خالتها وكبر الحلم حينما كبرت هاتان الكفان ليصبح حقيقة، تقول لـ«القطيف اليوم»: “في أيامنا لم يكن يوجد رسم بقمع، كنا نشكل الحناء بعود ثقاب أو أي أعواد صغيرة، وكنت أخطط رسوماتي على اليد مرات بالحناء ومرات بالخضاب الأسود، وكانت أشكال الرسومات حينها بسيطة لا تتعدى الأصابع وزخارف بسيطة وصغيرة في كف اليد”.
وتضيف: “مرت السنوات وكبرنا، وحين تزوجت ابنة خالتي لم تحجز لها “حناية” ووضعتني أمام الأمر الواقع كي أقوم بتزيينها بالحناء لزواجها، فقد كانت ثقتها كبيرة بعملي حسب وصفها، وكان نقش يديها سبب انطلاقتي الأولى”.
وتتابع: “بعد تلك العروس التي آمنت بموهبتي، أصبح الكل يحب نقشي، وفي البداية كنت أنقش الحناء للصغار والكبار في نفس منطقتي تاروت، وشيئًا فشيء توسعت الدائرة وأصبحت معروفة خارج تاروت، وبدأت بنات حواء في القطيف ونواحيها يطلبنني، ومما ساعد على شهرتي دقة شغلي ونظافته وترتيبه ولله الحمد”.
حرفة تصارع الشهادة
“المخلوق” تعلمت حرفة الحناء دون أن تتدرب على يد أحد ممن سبقها في المهنة، تصف ذلك بقولها: “كانت لي محاولات في تعليم نفسي بنفسي، ولم أجد صعوبة إطلاقًا، كان كل شيء سهلًا وممتعًا، فلم ألتحق بأي دورة ولم أشعر أني بحاجة لذلك”.
تخرجت أمل في الجامعة لتحمل شهادة البكالوريوس في علم الاجتماع، وهنا بدأ الصراع بين الوظيفة بشهادتها الجامعية أو مواصلة المشوار مع حرفتها لتصبح مهنتها الأساسية، فقدمت شهادتها كأي خريجة لتحظى بوظيفة حكومية، وتعرقلت في مطب الغربة، ثم ضعف الراتب، فكان الانتصار لحرفة الحناء في النهاية، عن ذلك تقول: “بعد أن تخرجت لم أرغب في وظيفة بعيدة لأني لا أحب أن أبتعد عن عائلتي، ومع ذلك صادف أن يأتي تعييني في منطقة بعيدة، ففضلت البقاء هنا، سيما وأن النقل كان صعبًا فيما سبق”.
وأضافت: “لم تكن عقبة الغربة وحدها ما صادفني، بل قلة الراتب أيضًا، فأنا حين أتغرب لأتوظف بشهادتي لن يبقى لي في نهاية الشهر إلا 2500 ريال فقط، وهذا المبلغ كنت أستطيع أن أجنيه في أسبوع من الحناء، وحين وضعت ذلك في ميزان التفكير رجحت كفة الحناء على الوظيفة، فهنا سأجني ما أريده وأنا قريبة من أهلي ودون عناء المشاوير، وحقيقةً كان هذا السبب الأقوى”، مستدركةً: “الآن الحياة تغيرت، فالفرص الوظيفية ما عادت صعبة كما في السابق”.
“توكل عيش”
آمنت تلك الفتاة جدًا بحرفتها، فهي تجدها مهنة تتساوى مع أي مهنة “توكل عيش” كما يقال، تقول: “تحولت الحناء من هواية إلى مهنة، أعتمد عليها في تدبير شؤون منزلي والتزاماتي”.
وتضيف: “تحويل الهواية إلى مهنة، أو الموهبة إلى مهنة أمر يصبح سهلًا حينما يكون هناك توازن وتنسيق للوقت، فلا شيء يأتي سهلًا، لابد من التعب والجهد والتحمل والصبر”.
تسويق ودورات
بعد ظهور السوشيال ميديا وبرامج التواصل، بدأت في صناعة منصات إعلانية لها، عن طريق صفحتها على “إنستجرام”، كما أنها اهتمت بجانب العروض والهدايا المجانية، كي تكسب زبائنها، بالإضافة إلى المشاركة في مهرجانات المنطقة قدر الإمكان.
بعد أن تمكنت من مهنتها، وأصبحت واحدة من الأسماء البارزة فيها، بدأت أمل في تقديم الدورات للراغبات بتعلم المهنة، كان ذلك في عام 1423 هـ، وقد قدمت حتى الآن 8 دورات، ضمت كل دورة 15 طالبة، أي أنها خرجت من تحت يديها 120 متدربة.
مشوار منقوش
التطور في نقوش أمل بدا واضحًا عن بدايتها، فهي حسب وصفها تجد أن ذلك برز بشكل واضح، ففي كل عام كانت تلتمس التغيير.
“تطور، وتحسن، وسرعة، ودقة، وثبات، وثقة، كلها أمور تتغير للأفضل في كل عام، فالتجديد مطلوب ويدخل فيه عوامل منها؛ ذوق الزبائن والوقت والجهد والسعر، وقد طورت نفسي بالاطلاع بشكل أوسع على نماذج ومجلات مختصة في مجال الحناء، مما ساعدني على التطور، وفي كل فكرة أقتبس منها لابد أن أطورها بأسلوبي الذي يحبه زبائني”، بهذا تحدثت عن مشوار التطور، مضيفةً: “سابقًا كانت الحناء خطوطًا رفيعة ودقيقة، أما الآن فالدارج زخارف بخطوط عريضة وبارزة”.
وعن التجديد الذي أدخلته على مهنة الحناء أو نقوشها في القطيف قالت: “أدخلت الألوان؛ كبداية الأسود ثم العنابي أو ما نسميه “دم الغزال”، ثم طبقت فكرة الدمج بينها، كما أني لم أحصر الحناء على اليدين فقط بل غيرت مساره إلى الظهر والكتف بطابع أكثر بروزًا وجرأة وقوة”.
قفاز الدانتيل
لم يقف تطوير المخلوق عند ما ذكرته فقط، بل بدأت على استيحاء في رسم نقوش من نماذج لرسومات كانت تراها في قطع قماش “الدانتيل”، فقد جذبتها مفارش الطاولات والشرائط التي تزين بعض القطع، حتى أخذت في تطبيقها بقمعها الصغير وبخطوط دقيقة جدًا، إلا أنها تفاجأت بفكرتها مطبقةً على قفازات بصناعة أجنبية.
وتسرد حكاية تلك القفازات قائلة: “عندما فكرت في نقل الدانتيل إلى الحناء أمسكت ورقة وقلمًا، وبدأت في تطبيق الفكرة من الورق إلى يدي العارضة، بعدما رتبت أفكاري بثقة، وقد اعتبرتها حينها خطوة جريئة بحكم أننا كعرب نميل لتصاميم معينة في النقش الخليجي، وفكرة الدانتيل بجرأته نالت إعجاب الجميع عامة؛ عربًا وأجانب، إلا أنني لمست إعجاب الأجانب به بصورة خاصة، فقد فوجئت باستنساخ النموذج من الأجانب، مع وضع إشارة لي في حسابي بإنستجرام، وقد تم تنفيذ النقشة في قفازات، وفي رسومات إستنسل تمت طباعتها من ليبيا والمغرب، وقد سعدت كثيرًا بعد أن شاركوني”.
كتاب
سكن حب التميز في مهنة الحناء أمل المخلوق وتمكن منها، مبرهنةً بذلك على أنه لا مانع من أن تحب ما تعمل إذا لم تعمل فيما تحب، فالحرفة التي برعت فيها دون شهادة لم تبقَ حرفةً أمية كما يظن الكثيرون، بعد أن ألفت فيها كتابًا، تفكر في جعله مرجعًا لكل من ترغب في ممارسة هذه المهنة.
تحدثت ابنة الربيعية عن كتابها لـ «القطيف اليوم» قائلة: “الكتاب يعد الأول من نوعه في منطقة الخليج، ويشرفني كواحدة من بنات منطقة القطيف أن أكون أول حناية تفكر بإنتاج كتاب يختص بالحناء، وقد بدأت فيه بشهر رجب من عام 1440 هـ، وطرحت فكرته بعرض صور لنموذج مصغر من شغلي، ويضم الكتاب نقوشي كطابع للحناية أمل المخلوق، ويخدم بشكل مبسط طالباتي بدوراتي التدريبية، كما يخدم كل مبتدئة متعطشة لتطوير شغلها”.
وأضافت: “ولقد واكبت طباعته الأولية إحدى دوراتي لطالباتي في تعلم نقوش الحناء، وشاركتهن بتوزيع بعض النسخ منه، لأنني لم أكمل إصداره حتى الآن، حيث إن عامل الوقت لم يخدمني”.
قصص
وحول القصص التي صادفتها في مهنتها، أكدت أنها كثيرة، منها المضحك والمفرح، والمؤثر بدموع الحزن أو الفرح، خاصة إذا اجتمعت بدموع فرحة الأم، وقالت: “تأسرني هذي اللحظات، تغمرني بالفرح والمشاركة بابتسامة وسعادة”.
وأضافت: “هناك قصة مؤثرة حدثت لي قريبًا، فأكثر شيء يحزنني ويؤثر بنفسي، عندما أحني عروسًا تكون محرومة من نظرة وعطف الأم”.
وتابعت: “صادفت عروسًا خلوقة هادئة مبتسمة، كانت تحكي لي عن معاناة مرض والدتها وكيف أنها ضحت بدراستها وعملها حتى تكون قريبة منها وترعاها في مرضها ولم تفارقها لحظة، كانت تخاف عليها لدرجة أنها امتنعت عن الكثير من الزيارات والحفلات خوفًا من احتياج والدتها لها”.
واستطردت: “في ليلة عقد قرانها، ذهبت العروس إلى صالة قريبة، وكانت هذه الليلة الوحيدة التي تأخرت فيها على والدتها، حيث تركتها بعدما أعطتها أدويتها واطمأنت عليها، وأثناء الحفل اختار الله وديعته، فتوفت الأم في فراشها، ووسط فرحة العروس بالصالة تلقى إخوتها وخطيبها الخبر”.
وختمت:” ربما لست طرفًا في القصة، ولكني أدرك في بعض اللحظات أن عملي لا يعني نقشًا أضعه على يدي زبائني وأخرج، بل قد يعني لمن تجلس أمامي لحظة “فضفضة” تتحدث فيها مع غريبة لا تعرفها، لتتنفس بعد أن تنتهي حكايتها، وقد تكون زبونتي العروس في ذلك اليوم قد احتاجت لنظرة أمها وهي ترقب أول زينة لابنتها استعدادًا لزواجها فاستحضرت وجودها بسرد ذكراها”.
وعن القصة الثانية قالت: “كان عندي حجز لعروس، وتوجهت إلى المكان المحدد، دخلت البيت فكان متزينًا بأجواء الحناء وطقوسنا الخاصة بتلك الليلة، وفي صدر المكان المتعطر بالبخور جلسة للعروس، وصوت المولد والأهازيج يملأ المكان، وحين توسطت المجلس تفاجأت بوالدة العروس تجلس وتقول لي: حنيني، فظننت أنها تمزح، لكنها لم تكن كذلك”.
وأضافت: “أخبرتي الأم أن ابنتها العروس لا تريد أن تتحنى وصرفت نظرًا عن مسألة الحناء لزواجها، ولأن الأم تحب الحناء كما أخبرتني، وأيضًا لا تريد أن تلغي الحجز بعد أن وصلت لهم قررت أن تتحنى مكان ابنتها، فما كان مني إلا أن لبيت رغبتها وبدأت في نقشها بنقوش خاصة بالعرائس فقط، وسط ابتسامات بناتها وخصوصًا عروسها التي رفضت الحناء”.
* ملاحظة: مصدر الصور الحناية أمل المخلوق