الموسى ونتاليا سفر للحلم والمعنى (25)  

التاريخ يشير 1982 وهو عام تخرج الموسى، وأما زوجته نتاليا تخرجت عام 1983م من أكاديمية سيكروف، وذلك بعد مرور 7 سنوات من التحصيل والدراسة، غانمين الفن والحب، تاركين السكن الداخلي الذي ضمهما بعلاقات حميمة، مودعين أساتذتهما والمكان، حاملين الذكريات الجميلة وأحاديث الشجن، وشهادة الماجستير في الفنون.

أصبحت عيون الزوجين مفتوحة على مدن عديدة، يتشاروان حول استئجار شقة تضمهما خارج نطاق موسكو، وبعد بحث وتقصي اختارت نتاليا مدينة (جودانوف) الخلابة، رغبة منها بالسكن قرب البحر، إنها مدينة تاريخية تعج بالأجناس والثقافات تقطنها قوميات من الروس والأوكرانيين واليونانيين واليهود والتتار، ذات طبيعة خلابة؛ سهول ممتدة على مرمى البصر، وأنهار متدفقة متعرجة ترسم آيات من جمال، تحفها جنوبًا سواحل رملية جاذبة للاصطياف والتنزه. وهي ضمن جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفيتية، تقع على بحر “أزوڤ” المتفرع من البحر الأسود، ويخترقها نهرا “كالميوس”، “وكاتشيك”، مدينة حيوية صاخبة ومليئة بالمتاحف والمعالم الثقافية، والمسارح والمهرجانات المتعددة.

تم اختيار المدينة بعد مسح ميداني من قبل الموسى ونتاليا، لكن العيش فيها بات مؤجلًا لما بعد العودة من ديار الهفوف.
حنين يلف الزوج رداء من شوق ولهفة إلى أرض الوطن. توجه الموسى لزيارة الأحساء للاطمئنان على والديه وأهل بيته، وحين وصل تفاجأ بأن أباه أصبح طريح الفراش نتيجة متاعب الحياة والتقدم في السن، لازم والده لمدة 7 أشهر يرعاه ويهتم به ويسهر على راحته، شوقًا للأب وتكفيرًا عن حالة الاغتراب الطويلة، قال الأب: “يا ستار لقد أصبحت الآن دكتورًا فعالجني وشوف ما هي علتي التي تنهش في جسمي”، صمت ستار
وتلعثم في الكلام، وأفصح له بكل ما هو مخفي:
“يا يبا أنا لم أذهب لفرنسا ولم ألتحق بكلية الطب، كنت أدرس الفنون في الاتحاد السوفيتي، وتخرجت بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف”، رد عليه والده بشيء من التعجب: “كنت شاككًا في الأمر يا ولدي من خلال تواريخ الرسائل وشكي زاد يوم طالبتك في إحدى الرسائل بأن تبعث لنا بطاقة الجامعة، ولم ألق منك جوابًا، ولكن كلنا سلمنا بالأمر بأنك تدرس في فرنسا، إذا كنت يا ولدي في بلاد السوفيت، ليش تغامر بروحك، وتروح إلى بلد ممنوعة، الله يستر عليك يا ستار؟”، ثم واصل بشيء من الظرافة: “أنا عندي شماغ أحمر، محتاج أفصّل ثوبًا أحمر، ونروح ونصور في الساحة الحمراء”، خاض الاثنان كثير من الدردشات من هنا وهناك، وقبل أسبوع من رحيل الحاج علي الموسى أبو أحمد، الذي امتهن صناعة البشوت مع زوجته، ثم أصبح ماهرًا في صياغة الذهب، يتقلب على فراشه ببطء ويسرد ذكريات الأيام الخوالي عن أحساء الأمس، شعر عبدالستار بتأنيب الضمير هامسًا في أذن والده بالحقيقة المتردد في قولها، فقد أخرج صورة من حقيبته وأعطاها والده، تمثل ستار واقفًا مع امراة وبجوارهما طفلة، تأمّل والده الصورة، وقال: “من هذولا اللي معاك يا ولدي”، رد عليه ستار: “هذه زوجتي اسمها نتاليا روسية وهذه ابنتي اسميتها سارة عمرها ثلاث سنوات”، أسبغ عليه والده تهاني قلبية كررها كثيرًا “الله الله ما شاء الله، الله يهنيكم ويديم العشرة الطويلة بينكم….”،
وضع الأب الصورة بجوار قلبه المتعب مبتسمًا يتمتم بجر الصوت بلوعات: “كم تمنيت يا ولدي لو حضرت عرسك ولو يكون في آخر الدنيا، كنت أتمنى لو زفيناك هنا وسط أهلنا ومعارفنا وبين ربعك وأصحابك، أي والله تمنيت وأنا واقف جنبك والناس تهنينا وتبارك، وأسمعهم يقولون لي: ألف مبارك يا أبو أحمد بعرس ستار، آه يا ولدي ما كان في اليد حيلة، أدعو من الله أن يبلغك في زواج سارة، اسمعني يا ولدي ليلة زواج ابنيتك أو أي أحد من أولادك إذا الله رزقك بغيرها، تذكرني يا ولدي زين كأني واقف جنبك نتقاسم الفرحة، ترى في قلبي حسرة؛ لأني ما حضرت عرسك، شوف يا ولدي أحلى لحظتين في حياة كل أب حين يبشروه بقدوم مولوده وليلة الفرح بعرسه”.

بعد أيام معدودات فارقت الروح لبارئها، شيع الأهل عمود البيت إلى مثواه الأخير، أنزل ستار جثمان أبيه في اللحد، مترحما عليه بآهات وحسرات ومستسمحًا إياه على كل المتاعب التي سببها له نتيجة سنين البعاد. يتصاعد من فضاء المقبرة أنين رجال وعويل نسوة، البكاء دواء للفقد، والدموع اغتسال للحزن.
وبعد انتهاء مراسم العزاء، شد ستار الرحال عابرا عدة محطات سالكا طرقا ملتوية في سبيل الوصول إلى جمهورية أوكرانيا الاشتراكية السوفيتية؛ حيث التطلع لحياة العمل الجديدة، وحين ودع ستار أهل بيته أوصاهم بأن يحفظوا السر: “لا تبلغوا أحدا بأني أدرس في الاتحاد السوفيتي”.


error: المحتوي محمي