الموسى ونتاليا سفر للحلم والمعنى (21)

ناجى الموسى ربه بأن يلطف بحاله، ويمسح الحزن عن قلبه، لحدث هز كيانه، وشتت تفكيره، كم بنى صروحاً من أحلام وقصوراً من خيال، عاش سنيناً بين الأماني والآمال.

والسؤال من ضيع من؟ حلم ضاع منه أم هو ضيع الحلم، كلا الصيغتين يتوه فيهما اللا جواب، يغمض عينيه ويغفو باسترجاع حلاوة الأمس، ويصحو على مرارة حنظل اليوم، يتأمل حلماً انتهى ولا أمل، وعوداً ذهبت مع الرياح، ومعها خسر رهان القلب، لم يكن يتوقع أن الحب مشواره محدد وقصير الأمد، وعند مفترق طرق ينتهي للا شيء، كم ظن وظن بأن الحب سيعيش ويعيش معه طول العمر، ومضات تبرق بابتسامة ذلك الوجه النوراني كيف ذهب عنه إلى غير رجعة، حسرات تعصف به ويضرب الراح بالراح، أطياف أيام جميلة تتراءى، وأحاديث الحب ترن في أذنيه، صور ومشاهد تغيب وتحضر، حسرات مرة، قلق والليالي أرق، والنوم خصم والفرح غريم.

الأهل فرحون بمقدمه وبعودته إليهم سالماً وهو في غم وكدر، لم يعد يشاطرهم فرحتهم، حزين لخسارة حمامة طارت من بين يديه، حبيبة قلب راحت وغابت للأبد.

كانت خطته بعد زاوجه من بنت عمته التي أحبها منذ سنين الطفولة، بأن يأخذها يدًا بيد في حله وترحاله، ويعيش معها في العاصمة موسكو وما بعدها، تلك كانت النوايا، أما الآن كل شيء انتهى في طرفة عين، ولامجال في انتظار مالا ينتظر، بعد أن أقيم الفرح وتزوجت ابن الحلال خلال أسابيع من عودته، ضاقت به الدنيا بما رحبت، قائلاً بصدق المحبة ووشائج القربى: “وداعاً لكل الذكريات الجميلة، وداعاً يا حب، أتمنى مخلصاً من الله بأن يبارك لمن كان القلب يهواها يوماً، يا رب أسعدها دنيا وآخرة، وتعيش حياة رغدة وعشرة دائمة”.

أبلغ الجميع بأنه سوف يشد الرحال سفراً في القريب العاجل، مدعياً بأنه يدرس الطب في فرنسا، وقبل توديع أهله بأيام همست له إحدى أخواته بشيء لم يكن في الحسبان، قالت له: “يا ستار حدثتني بنت من بنات الجيران تريد أن تقابلك، هي لمحت لي بأن عندها كلاماً مهماً وضرورياً جداً، ستكلمك بحضوري معكم في مجلس بيتنا”.

أتت تلك البنت الشابة “…..”، وبعد التحية والسلام    والتمهيدات المطولة فاتحته بكل صدق وشفافية: “يا ستار، أني معجبة فيك وبشخصيتك، وأقولها لك بكل وضوح بأن قلبي مال لك من سنين ولم يزل، وزاد بعد ما عرفت ما جرى لك مؤخراً، اسمح لي أن أتقدم إليك، وأخطبك لنفسي لتكون زوجاً لي على سنة الله ورسوله، بصراحة أني أحبك”!!

علامات الدهشة والحياء أخذاه احمراراً في الوجه والوجنات مما سمع، رد عليها متلعثماً “بارك الله فيكِ، حقيقة أنا لا أعلم بمشاعرك العالية تجاهي مطلقاً، فاجأتيني، ولا أدري ما أقول… “! في داخله راح يسترجع نظرات الكثيرات ممن مررن وتبسمن له بين الأزقة الضيقة في ليالي النافلة والناصفة، وأيام المواليد والأعراس والأعياد، هل كانت هي واحدة منهن، دروب الطين الضيقة والجدران العتيقة تحمل بين ثناياها أسرار  المحبين.

قوام عبدالستار الفارع وهيئته الجذابة، كانت أنساً لأحلام العذارى وهو غافل عنهن، الزمن أباح له بحكايا المتيمات به كطرائف ذكرى لأيام الصبا.

بعد الحديث المفاجئ وغير المتوقع من البنت الصادقة في توجهها لحب يرمي للزواج دون إبطاء أو تأخير، وبعيداً عن أي تأويل أو تفسير، هو الحب سيد الموقف  من خلق ابن آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، هي غريزة وضعها الله في قلوب كل البشر وكل الكائنات الحية.

استجاب ستار لا إرادياً وخفض لها جناح الود، ونبضات القلب تتسارع إيقاعاته بفرح تلو الفرح، وابتسامات عين الرضا مرتسمة على الوجهين، عزف القلبان تباريح الحب، في انتظار مزيد من المسرات لما هو قادم.

عاش يومه طائراً من الفرح المتقلب والمتلون، بالأمس ودع حباً واليوم يستقبل حباً آخر، كيف يحدث ذلك! أهي صدف جميلة مخبأة أم حظ رائع قادم إليه من حيث لا يدري؟ خاطب نفسه: “هل ما يحدث لي مجرد حلم أم حقيقة، أهي الإنسانة المكتوبة لي، والزوجة المنتظرة فعلاً، أتمنى أن تكون من نصيبي”.

صعد غرفته وفتح المسجل  ليستمع مقطعاً من مطربه المفضل عبد الحليم حافظ وهو يخاطب قلبه غناءً وأنغاماً، فأخذ يردد معه وكأنه هو المعني بقلبه: “تاني تاني تاني حنروح للحب من تاني، والنار والعذاب من تاني، تاني تاني تاني.. حنروح للحيرة تاني.. ونضيع ونجري وراء الأماني، ويغيب القمر ونعيش السهر.. وآهات الألم بليالي الندم، يا ليل ٱه يا ليل..يا حزن السهارى، ياللي شفت في عنيا الدموع وأنا دايماً راجع وحيد، خلي فجر الحب يطلع بدري يملي مشوارنا الجديد، وأمانة يا دنيا أمانة تاخدينا للفرحة أمانة، وتخلي الحزن بعيد عنا وتقول للحب استنا استنا…”.


error: المحتوي محمي