الغذاء نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى على الإنسان، سخر له كل خيرات الأرض لينتفع بها، فوجد فيها ما يسد رمقه ويطفئ ظمأه، وأيضاً ما يبرئه من أمراضه وعلله، حتى أصبحت اليوم وبحق من أهم المصادر الطبيعية للشفاء، وهي السبب في بقائه واستمراره بعد قدرة الله تعالى، على هذه الأرض.
يقول المثل “يؤتى الحذر من مكمنه”، التقدم العلمي الذي انعقد عليه الأمل واعتبر الملاذ الأخير لضمان توفر الغذاء، انقلب ليصبح عدواً يهدد بعواقب وخيمة على الصحة، لا أحد يدرك إلى أين تنتهي، إنها الملوثات في الحقل الغذائي التي أصبحت أمام الخوف المحدق في مختلف مجالات الحياة، فقد ظهرت أمراض لم تكن في الحسبان، وصار المستهلك يحس بشيء من الخوف ويشعر بهاجس يلازمه من أن يكون مشترياً حتفه بنفسه.
بداية وقبل مناقشة ما جاء في المقدمة لابد من التأكيد بأن الغذاء يعني الحياة، حيث تستطيع جعل الغذاء دواءً أو مرضاً، وانتقائه ليس بهدف ملء البطون للإشباع والتلذذ، وإنما توفير حد كافٍ من العناصر الغذائية الضرورية من غير تأثير سلبي على الصحة العامة.
• الغذاء الصحي هو توفير جميع الاحتياجات الغذائية للفرد، إلى جانب خلوه من السموم والمواد الكيميائية الضارة، بالإضافة إلى أنه يساعد على الوقاية من الأمراض.
• الغذاء الطبيعي هو ما أنتجت عناصره الأرض الطبيعية الخالية من كيماويات وملوثات وسموم جرثومية ومواد أخرى، والمستفيد من دفء الشمس.
حليب طازج من أبقار خالية من الهرمونات، خضراوات وفواكه خالية من المبيدات، لحوم وأسماك خالية من الكيمياويات.
كل ما سبق من أطعمة من الأرض الخالصة التي لم تقربها شوائب وملوثات، فهي ببساطة أطعمة طبيعية المنشأ أو ما يعرف بالأطعمة العضوية.
يبدو الحديث عن الأغذية العضوية أصبح اليوم أمراً بديهياً وغنياً عن البيان، فالغذاء لم يعد ثمرة الطبيعة لما تجود به الأرض، دخلت عليه مخاطرات ساهمت في تفشي الأمراض ودمرت صحة الإنسان.
لا بد من التذكير بأن جسم الإنسان منظومة على درجة عالية من التعقيد، بتركيبته الفسيولوجية ووظائف أعضائه وخلاياه، ونظامه الهرموني الدقيق، يختزن الكيماويات والملوثات، أدّى كل ذلك إلى تحميل الجسم الكثير من المخاطر الصحية، المعروف منها والمجهول، وأحدث خللاً وإرباكاً في قدرة الجسم على مقاومة بعض الأمراض المستعصية، وفي مقدمتها السرطان.
من هنا يمكن فهم موجة الرفض العارمة التي اجتاحت الكثير من الناس مند عقدين من الزمان وكانت تنادي بالعودة إلى الغذاء الطبيعي وإلى تبني أنماط جديدة من الاستهلاك.
تأثر المستهلك بالجدل الدائر حول الآثار الصحية للأغذية المصنعة، وأصابه التشوش، وصار يهتم بمراجعة مكونات غذائه المنتجة بهذه التقنية، فتزايد اتجاه المستهلكين نحو الأغذية العضوية، وهي الأغذية التي تجيء من محاصيل زراعية لم تستخدم فيها أية معالجة من معالجات التكنولوجيا الحيوية “تعديل وراثي – محفزات نمو باستخدام الهرمونات”.
التشجيع والدفع إلى الزراعة العضوية وحث المزارعين وأصحاب المشاريع الزراعية ومربي الأبقار والدواجن على تطوير وسائل الزراعة وتربية المواشي وتغذيتها بالأعلاف الخضراء والحبوب الطبيعية في الهواء الطلق لتعطي منتجات زراعية خالية من الهرمونات ولا بالمضادات الحيوية، هكذا يكون الغذاء المثالي.
الاعتماد على الكيماويات لزيادة المحاصيل الزراعية وراء تفشي الأوبئة والمخاطر الصحية هي في النهاية حصيلة التلاعب بالمعطيات الطبيعية للزراعة.
هناك سباق عالمي متكافئ بين الزراعة الصناعية والتي هي حصيلة الذروة في التقدم العلمي ومنتجات الزراعة التقليدية الطبيعية.
بعد أن أشاعت التوعية الصحية حول أهمية الغذاء في حياة الإنسان، بات من الممكن دراسة تأثيرات عناصر غذائية ذات فعالية في علاج الكثير من الأمراض، والتوقف أمام أثر الأغذية المصنعة على وظائف كثيرة في الجسم البشري.
عادت الزراعة الطبيعية المبتعدة عن كل مؤثر كيميائي أو تغير وراثي لتنمو وتزاحم الزراعة الإنتاجية، وأصبح المزارعون يتجنبون استعمال الكيماويات لأنهم يعرفون أخطارها.
بنظرة متأملة للماضي نجد أن أجدادنا كانوا في كامل صحتهم ونشاطهم وعاشوا أعماراً طويلة، وبمعدل وفيات منخفض، هم يأكلون يقدرون ويضعون في حساباتهم الطعام الطيب من الأرض الخالصة التي لم تقربها الكيماويات، لم يكن عندهم تصنيع ولا كيمياء، ولم يفكر أحد أن يخزن اللحوم أو الأسماك أو الخضراوات، وإن كان هناك طرق بدائية، وكان ذلك يحدث قليلاً بل نادراً، فكانوا يأكلون ما تنتجه الأرض، ويقولون بأن أغذيتهم صحية، فلم يكن لديهم أمراض عصرية.
اليوم وبعد أن عَمّت الأمراض توجهت أصابع الاتهام إلى أكثر من جهة، وحظي الغذاء بالحظ الأوفى من التهم وأخذ الجميع يتكلم عن الغذاء الصحي، فكثرت الأصوات المطالبة بضرورة التوقف عن استهلاك الأغذية المصنعة، وذلك لما تحتويه من مواد تؤثر سلباً على صحة الإنسان.
نحن بحاجة إلى نخبة من المستهلكين الذين يملكون من قوة الإرادة ومن الإمكانيات المادية ومن الثقافة المدنية والذوقية ما يمكنهم من السباحة عكس التيار ومن رفض ابتلاع ما تفرضه عليهم المختبرات الزراعية.
من جهتها، فإن المختبرات ومراكز الأبحاث الزراعية بعد أن كانت تهتم فقط بالإنتاجية أصبحت تستثمر في تطوير منتجات ذات نكهة طبيعية شهية، إضافة إلى ذلك فقد أصبحت الحكومات الأوروبية تشجع العودة إلى الزراعة التقليدية وتمنح الشهادات والعلامات المسجلة لكل منتج تتوافر فيه النوعية العالية.
لم يعد هناك من متجر كبير في أوروبا إلا ويتضمن أجنحة خاصة لبيع المنتوجات الزراعية التي تنطبق عليها مواصفات الإنتاج الطبيعي الخالي من المبيدات الحشرية، وغني عن القول أن هذه المنتجات هي أغلى ثمناً بشكل ملحوظ من غيرها، نظراً إلى طول المدة التي استغرقها نضوجها، وصغر أحجام الثمار، وقلة إنتاجية النبتة الواحدة منها.
يقول الخبراء إن هناك عقبتين كبيرتين تقفان أمام انتشار الأطعمة العضوية الزراعية هما:
• قلة الوعي
• ارتفاع السعر
فلا بد من قيام الجهات المعنية بالتدخل أكثر فأكثر في مراقبة المنتجات الزراعية وضبطها وإتلاف الضار منها من جهة، ومن جهة أخرى دعم المزارعين وحثهم لإنتاج المحاصيل الزراعية العضوية، مع جعل قوى اقتصادية تستثمر أكثر فأكثر في هذه النوعية من الأغذية، أو تتكفل جهات تسويقية مدعومة بطرحها في الأسواق بأسعار مناسبة لجذب أكبر عدد ممكن من المستهلكين.
لجوء بعض من المستهلكين للمنتجات المزروعة طبيعياً والتي تباع في محلات الغذاء الصحي، أصبح توجهاً لدى الكثير لتلافي استهلاك الأغذية التي مورست عليها يد التكنولوجيا سواء أكان مرشوشاً بمبيد حشري أو مسمداً بسماد كيميائي.
نحن نستشرف ما سيكون عليه طعامنا في المستقبل من منطلق تحسين شئون الحياة على الأرض.
• سيصبح أكلنا من المواد العضوية خالياً من المبيدات، ستتم زراعة المحاصيل الزراعية في تربة عضوية خالية من الأسمدة الكيميائية، وتجمع أيضاً من مزارعين يلتزمون بزراعة الأغذية العضوية، ويقدم الحليب بضمان خلوه من هرمونات النمو التي تعطى للأبقار، ونذهب إلى خطوة أبعد بتقديم أغذية خالية من الإشعاع ومن التغيرات الوراثية.
• وسيصبح أمراً عادياً أن يكون لدى كل مريض “سجل جيني” يفحصه الطبيب ليتعرف على الأمراض ثم يقدم لمريضه النظام الغذائي الواجب اتباعه للحفاظ على صحته.
• ستصبح المستحضرات الصيدلانية تباع من دون وصفات طبية في محلات تسويق الأغذية الصحية لكونها تتركب من عناصر غذائية ذات فعالية في علاج الأمراض.
• وسنرى أول مريض للسرطان يتناول وجبات غذائية كدواء فعال، يستطيع أن يعالج أي نوع من أنواع هذا المرض، ومن دون أية آثار جانبية!
• سيصبح تناول خبز البر الأسمر من حبوب الحنطة العضوي الكامل دليلاً على التحضر والثقافة والاهتمام بالصحة والوقاية من أمراض العصر.
• ستصبح مياه الشرب المعبأة في القوارير خياراً ثانوياً للمستهلك لتوفر المياه المعدنية النقية الغنية بالأملاح المغذية من مصادرها الطبيعية، تصلنا عبر مياه الشبكات العامة.
• وسيصبح تناول الطعام بتمهل عادة من عادات الماضي هو النمط السائد بين الناس.
إنها مجرد محاولة لاستشراف المستقبل، قد لا يصح لاحقاً بعض جوانبها، ولكن قد يحمل المستقبل من التحولات ما يتجاوز كل تقدم، ألم يفعل المستقبل ذلك أكثر من مرة في الماضي؟
إن اختيار الأطعمة الطبيعية العضوية يعتبر عاملاً حاسماً في المحافظة على الصحة، وهي الصورة المشرقة والمقنعة للمستهلكين، فالدور الأساسي المستقبلي للغذاء، هذا ما نصحت به منظمة الصحة العالمية WHO.
خيارات مفيدة وضرورية لصحتنا، ثقافة صحية واعية تهدينا بتطبيقها حياة أفضل.
منصور الصلبوخ
اختصاصي تغذية وملوثات