المجرب أم الطبيب؟

في حوالي السنة الثانيةَ عشرة من عمري فاجأتني حمى شديدة، لم استطع اللعبَ أو أشتهي الأكل. نَظرت أمي إلى عيني وظنت أنها رأت فيها صفرةً فلم يستغرق الأمرُ طويلاً قبل أخذي لمنزل الرجل المداوي عن تقريباً كل شيء من كسرٍ وحمى وألم ظهر وخلع الأسنان!

أحمى الرجلُ حديدةً في الموقدِ حتى احمرت وقال لي: ارفع ثوبك عن ظهرك، ولم أكد أفعل إلا وشممتُ رائحةَ الشواءِ من جلدةِ ظهري مع دفعتين قصيرتين من الألمِ المكثف. ويا للعجب عدتُ أجري بعد دقائق وأبحث عن الأكل! هل كان شفائي السريع خوفاً من بقيةِ الدواء، أم هو فعلاً نجاح المداوي في معرفةِ الداءِ والدواء؟ ربما لا يهم فلم يكن حينها الطبيب موجوداً ولا دواءَ غير الكي!

قبل العلم والتجارب التي يؤطرها البحث العلمي اعتمد الناس على تجاربهم وتجارب غيرهم وفي غياب المعرفة التامة وعدم تمكن العلم من الإجابة عن كل المعضلات، أو على الأقل قدرة الناسِ على التوصل لحلول علمية، تسود مقولة “اسأل مجرب ولا تسأل الطبيب”! وتظل ثقة الناس في نجاحِ التجربة تحفر في عمق سلوكياتها حيث يأتي العلمُ في مرتبةٍ متأخرة.

في سنواتِ الاستثمار في الأسهم ادخرتُ مبلغاً من رواتبي الشهرية واستشرت صديقاً لي كان بمثابة الخبير الذي جمعَ ملايين الريالات في كيفية استثمارها، ولكن كانت نصيحته أكثر إيلاماً من تجربة الكي في الصغر. وهكذا بعد سنين عديدة لا أزال أتأرجح على الدوامِ بين الأكاديمي والمجرب، ومن منهما يقدر على حلِّ المعضلات الاجتماعية والمالية والطبية والمعرفية وغيرها من لوازم الحياة!

الأجدى أن يكون الطبيب ذاته هو المجرب والعارف، والخبير في شؤون الأسرة هو أكاديمي أيضاً، وليس شخصاً يلبس زيَّا مختلفاً أو عليهُ سيماء الصلاح، والمستشار المالي هو من يملك رؤيةً واسعةً وخططاً وأهدافاً يستثمر فيها مدخراتنا. ومما يصعب على المختصين مهامهم الآن أننا كلنا أصبحنا أطباء ومستشارين في الاقتصاد وعارفين في أصناف الهندسة، كل ذلك بفضل تجارب الآخرين الناقصة، الذين بضربة حظ وفركة كف جاء لهم الحل!

من أخطر الأمور أن تعطي صحتك لغير المختص بدعوى التجربة، وجيبك للمحتال بدعوى الحذاقة، وأن تضع ثقتك في غير محلها، وإن نجح المجرب غير المختص مع غيرك، يبقى احتمال أن يفشلَ معك أكبر من الأكاديمي الذي تقف تجربته فوق أرضٍ صلبة من التعليم والمعرفة الشاملة!

كنتُ في إجازة في إحدى الدول العربية وكان فيها كثير من صناعي الأسنان يمرون بحقائبهم وينادونَ الناس لإصلاح أسنانهم، فسألت واحداً منهم: كيف تعلمتَ مهنةَ طب الأسنان ولستَ طبيباً؟ فقال: ورثتها من أبي! لم أعطه فرصةً أن أكون فأرَ تجارب، لكن صديقاً لي كان معي زار عيادةَ طبيب الأسنان القريبة، وخرج منها دامي الوجنتين!

في كل مشاكل الحياة، لا العلم المحض دون التجربة والخبرة ينفع، ولا الخبرة دون العلم والمنشأة الأكاديمية تنفع. وكلاهما يدعم الآخر في الطب والاقتصاد والتربية ومشاكل الأسرة، وإلا تفاقم الداءُ واستشرى فلم ينفع بعدها دواء!

لن ينتصر العلمُ على تجاربِ الأفراد والمجتمعات بالمطلق؛ لأنَّ وهج تجارب البشر أخاذٌ ومقنع، فحينما كنتُ أصاب بقطعٍ وتسيل قطرات الدم كان يكفي أن تحضرَ أمي وريقاتِ ريحان من جنينةِ جيراننا، تلثم القطع فيسكن فورانُ الدمِ وتُشفى الجِراح! فأي علمٍ أرق من هذا؟


error: المحتوي محمي