غافلون..

أبدأ بنفسي، لأندب حظي أنا الغافل حين أجدني والغالبية للأسف على شاكلتي نلتهي بالدنيا، ونحرص على أن لا يفوتنا من زخرفها ولهواتها أمر إلى وردناه، ولا تجربة إلا خضناها، وأن لا تمر مناسبة إلا حرصنا على حضورها بحثاً عن اللهو والمتعة والأنس.

ولا يعني ذلك عدم وجود الفائدة من ورود مشارب كثيرة في الحياة، أو ننفي ضرورة الحصول على ما هو مأمول أن نكون عليه لتكوين شخصياتنا الذاتية، وأن نتسلح بالعلم مثلاً، أو أن نخوض تجارب الحياة ذات المردود الإيجابي علينا، لأن ذلك مطلب ومكسب، فكلما تعلم الإنسان وعمل وخاض التجارب النافعة، فإنه بذلك يبني ذاته ويكون ويقوم شخصيته، وتكون له الشافع والطريق للنجاح في حياته العملية والاجتماعية والسلوكية، كما وتشكل شخصيته نتيجة ما جناه وحصده.

ولكن، وهو سؤالنا الأهم: أين نحن من شرع الله عز وجل؟ أين نحن من التفقه في الدين؟ أين نحن من العلاقة به؟ وأين نحن من عبادته الحقة؟

لو فكرنا فقط لدقائق، وعوداً على ما بدأنا، وقارنا بين ما نصرفه من وقت سواء بين ما نخططه ونتمناه لأنفسنا وأبنائنا في الحياة الدنيا، زائداً ما نضيعه في الالتهاء والاستمتاع فيها، وبين ما هو أهم وأوجب ونعني به الاهتمام بعباداتنا ومعاملاتنا من خلال الحرص على التعلم والتفقه، حتى تكون عبادتنا وأفعالنا ومعاملاتنا وفق الشريعة التي أرادها الله سبحانه، فسوف نرى أنه لا توجد مقارنة على الإطلاق، هذا إذا لم تكن صفراً على الشمال أصلاً من الجانب الديني.

إن أكثر مساجدنا ولله الحمد عامرة بالمصلين، ويوجد بها أئمة جماعة غالباً من العلماء وطلبة العلم، وهم في أكثرهم يبحثون ليلياً في الرسائل العملية والفقيه لمختلف المراجع، ولكن للأسف نرى غالبية المصلين ينصرفون بعد الصلاة مباشرة إلا القليل جداً، ولا يصرفون اليسير من الوقت للجلوس والاستماع لما هو أهم في المقام، والذي بناءً عليه ومن خلال معرفته يكون المرء واثقاً وباطمئنان على أن عبادته لله عز وجل ومعاملته مع عباده هي وفق شرعه وهديه.

وكل ذلك لا يتعدى العشر دقائق من الاستماع لما يُستعرض من الرسالة العملية لمرجعه وعند الإمام أو رجل الدين الذي يرغب.

لا يكفي أبداً السؤال من خلال اتصال هاتفي أو قراءة المسألة من الرسالة العملية دون الشرح وفهم التفاصيل والمداليل، هذا إن كنا أصلاً نحوز نسخة منها، كما لا يكفي الحضور لمجلس الشيخ الفلاني فقط من أجل مسألة شرعية طارئة والاكتفاء بذلك كل مرة، فامتلاك الفرد منا لحصيلة علمية شرعية معتبرة ضرورة ملحة، وهي ترقى للواجب، حتى نستطيع أن نؤدي واجباتنا على أساس قويم.

كم نحن غافلون فعلاً، في الوقت الذي نصرف فيه الساعات والأيام والليالي على شاشات التلفاز أو في المجالس والديوانيات وحضور الأمسيات والندوات المختلفة والمباريات الرياضية، ومختلف المتع دون الالتفات للوقت الذي نقضيه، ونستخسر دقائق معدودة فقط، نحضر فيها تحت منبر المسجد أو حضور دورة فقهية وشرعية نكسب منها ما هو أهم، وننفع بها أنفسنا وأهلينا، ونستغني عن عناء المسألة والبحث عن إجابة على ابتلاء شرعي لأننا نفقد حسن التصرف وفق الضوابط السماوية، ولا أقل أن هذا الحضور أو التعلم سوف يصحح لنا الكثير من الممارسات العبادية والمعاملاتية التي نقوم بها إن كانت خاطئة، ولربما تكلف ثمناً باهظاً سواء عدم قبولها، أو إعادتها كاملة، وكم صحح الحضور للبحوث الفقيه أموراً كثيرة للعديد من الناس بسبب الجهل بها وعدم أخذها من أهلها.

نحن فعلاً غافلون ولاهون بما هو زائل، ومتناسون الأوجب علينا، وكأنه أمر هامشي، ولا أدري وأنا أول المفتقرين: هل أننا امتلكنا ما نستغني به عن أهل العلم؟ وأن كل عبادتنا هي وفق الضوابط الشرعية؟ ولا حاجة لمتخصص نؤكد أو نرسخ منه ما نظنه صحيح كما نفعل مع مختلف العلوم والتخصصات، فنذهب للطبيب والمهندس والميكانيكي وخلافهم، فلماذا نستثني ونتجاهل الدين؟ في الوقت الذي هو الأهم ونحن عنه مسؤولون، وبه مأمورون، في سكناتنا وحركاتنا، ولا حجة لدينا أبداً، فالمساجد كلها مفتوحة، وتقام بها صلاة الجماعة والبحوث الفقهية في معظمها ومجالس العلماء وطلبة العلم كذلك، وما علينا سوى التوجه للمكان والمتشرع الذي نريد سواء في المسجد أو خلافه ونأخذ منه، وهو أمر حرص عليه أئمتنا عليهم السلام، ففي الرواية عن الامام الصادق (عليه السلام) أنه قال: “لوددت أن أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتى يتفقهوا”، والبلاد كما قلنا ولله الحمد زاخرة بالعلماء وطلبة العلم، وقد امتثل الكثير منهم لما ورد في كتاب الله عز وجل حيث قال في الآية الشريفة: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} صدق الله العظيم.

إن علينا واجب العلم والمعرفة بأصول ديننا وفروعه وشرعه وما نحن مبتلَون به، كما هو واجب علينا تعلم مختلف العلوم النافعة، وكل ذلك من أجل السلامة في الدين والدنيا والنجاة في الآخرة، فما نفعنا إن أهملنا ذلك، وعلى أي أساس نبني حياتنا، وكيف سنقابل ربنا أن كانت كتبنا وأيدينا فارغة مما نقدمه بين يديه عز وجل يوم الحساب.

ليس المطلوب منا أكثر من ذلك، والمتدين ليس رجل الدين ولا المتفرغ له، إنما المتدين هو الذي يؤدي واجبات ربه وينتهي عن نواهيه وفق الضوابط الشرعية، كما يؤدي المستحبات ويبتعد عن الشبهات ويتقي الله حق تقاته عز وجل، وفي ذلك نجاته، والفوز برحمته ورضاه وجنته.


error: المحتوي محمي