الموسى ونتاليا سفر للحلم والمعنى (12)  

لم يكن التكريم عنده ذا بال حينما وجهت للموسى ذلك السؤال أثناء احتفالية الفنان عبد الرحمن السليمان العام الماضي في رحاب جمعية الثقافة والفنون بالدمام.

وبعد أن صافحته وسط الزحام ألقيت على مسامعه سؤال مستغرب: “عجباً يا أبا علي لماذا لم يلتفتوا إلى تكريمك؟ أفي الأمر تجاهل أم مجرد نسيان”! أبلغتني تعابير وجه بالامتعاض والحيرة من دون أن ينبس ببنت شفة.

وعرفت لحظئذ بأن علامات الضيق والعبوس على محياه ليس لها صلة بالسؤال الحائر، إنما علامات نكوص نفسية لجسد متعب، بشحوب وجه وخفوت صوت، واستكانة عن إبداء الرأي، ألفيته شارد الفكر وآثار الإعياء أبلغ من أي كلام.

لقد أخبرني بعد سعال متقطع، بأنه يمر بأزمة صحية حرجة، وسيخضع بعد أيام لإجراء عملية جراحية في الصدر “عملية القلب المفتوح”.

وإلى حين الموعد المرتقب عاش التوجس والتردد والقبول والحيرة، معنويات متأرجحة بين علو وهبوط، وتوتر وأمل، حين ألبسوه الثوب الأخضر توكل على الله ثم غاب عن الوعي، مبضع الجراح والكادر الطبي من دكاترة وأطباء وممرضات متأهبون بيقظة حواس على جسد ممدد بلا حراك، فتح الصدر وكشف عن الفؤاد، مضخة بحجم راحة اليد تتسارع بخفقان، تقلبها الأنامل الماهرة، صوت أنفاس ومقصات وغرز ورائحة دماء ومحاليل وأدوية، آلة اصطناعية تقوم مكان القلب والرئة لضخ الدماء للجسد.

أي فن وأي علم يفوق في الدنيا معالجة قلب عليل، مستسلم لعملية محفوفة بالمخاطر وكل الاحتمالات واردة، دقائق تمر والساعات حبلى بين حياة أو انطفاء، وحينما تسير الأمور موفقة بإذن الله، يكتب عمراً جديداً لذلك الإنسان الغائب عن الوعي.

أسرة الفنان والصحب والأقارب عاشوا لحظات توجس وقلق وألسنتهم تلهج بدعوات مسترسلة نحو السماء.

وبتوفيق من الله تكللت العملية بالنجاح بعد مرور 6 ساعات متواصلة، تم خلالها زرع شريان في حنايا القلب.

حين أفاق من التخدير نظر ذات الشمال واليمين غير مستدرك لا المكان ولا الزمان، مشوش بين الحضور والغياب، ثمة توعكات وآلام مبرحة، أنين وأنفاس متقطعة، جسد يسترد عافيته يوماً بعد يوم يتوسد السرير الأبيض تتناثر عليه ابتسامات ملائكة الرحمة، وتحيط به باقات الورد ودعوات الأحبة، عين الرضا ترسم معالم محياه والحمد والشكر ملء شفتيه، حين أذن له الأطباء بالمغادرة ذاهباً لمنزله وعند لحظة خروجه من أسوار المستشفى سالكاً الدروب رأى ضوء الشمس بازغة بالفرح والوجوه أجمل من الأمس، رأى الدنيا رحبة والهواء عليل، كل شيء تغير في نظره، أسارير وجهه تتبسم بدقات قلبه الرهيف، بأنفاس منتعشة، كان خروجاً من غياهب المجهول، أحس كأنه ولد من جديد.

وبينما هو في طور الاستشفاء، الشوق يناديه حيث يهوى، بعد أربعة أيام من إجراء العملية يده تمتد نحو الفرشاة واللون، حراك يأخذه تلقائياً سفراً للأحلام المؤجلة، فراحته تكمن بين راحة يديه المشغولة دوماً بالتعبير عن مكنونات نفسه وقلبه المفعم بالجمال ونبض الفن، قائلاً: “الانشغال بالفن يمدني بطاقة الشفاء وينسيني تقلبات الألم، الفن إكسير حياة”.

تعافى له المخلصون، وأباح للمقربين بأنه عاكف على تجهيز معرضه القادم.

بشائر فرح تناقلها المحيطون به محبة وتواصلاً.

وبعد مرور عام تقريباً أقام الفنان الموسى برفقة زوجته نتاليا معرضاً ثنائياً جديداً، واختارا يوم الافتتاح بالتزامن مع الاحتفالات باليوم الوطني السعودي لهذا العام 1441، قاصدين تحديداً هذه المناسبة، لما تمثله من رمزية معنوية وقيمة وطنية مكللة بأفراح الشعب، أرادا مشاطرة الفرح بالفرح، بتآلف ريشتين وتمازج فرحتين فرحة وطن وفرحة معرض، وأعمال الموسى تنبئنا بأن الوطن حاضر في جنبات أعماله، بدءاً من إنسان هذه الأرض، وانتهاءً بإبراز تجليات المكان.

معرض ثنائي أقيم على صالة جمعية الثقافة والفنون بالدمام مساء يوم 19سبتمبر 2019 افتتحه د. محمد باجنيد، مدير معهد الإدارة العامة بالدمام، وبعد أن قص الشريط وسط ترحيب الحضور المكثف من شخصيات فنية وأدبية وثقافية، طاف الضيف وعينه ترمق الألوان المتناثرة بعلامات الرضا والمسرة، مستمتعاً بما يشاهده ومستمعاً بإيضاحات الفنانين، ومعرباً عن شديد إعجابه بما شاهده من أعمال راقية.

معرض يمثل الثنائية التشكيلية النادرة طوال مسيرة المعارض الفنية على مستوى خريطة الوطن، إذ يندر أن ترى معرضاً مشتركاً يضم زوجين فنانين ومن بلدين مختلفين، يتقاسمان العرض الفني كحلم موحد، إنها علاقة وجدانية وفنية لأكثر من أربعة عقود طافت بين أمكنة متعددة وأزمنة متغيرة، فمنذ أن جمعهما الحب عام 77 وقلبيهما يخفقان عشقاً وفناً، إيقاع نبض يسري بدم متحد في الإنجاز بعروض ثنائية مستمرة، يتألق الاثنان سفرا للحلم والمعنى.

طافت عيون وفاضت ذائقة وتغنى وجدان حول معرضهما المشترك.


error: المحتوي محمي