الموسى ونتاليا سفر للحلم والمعنى (5)

تطوف عيون بنظرات الترحال، وعيون تبحر بتأمل، وأخرى بتبصر وسؤال، عن معرض مشترك بين زوجين عاشقين متيمين في الحب والفن، جمعتهما الأقدار مصاهرة واندماج، الزوجة “نتاليا ستنيلاففنا ريدر” تعود جذورها إلى الأرستقراطية الألمانية البولندية مندمجة مع كبار الإقطاع في روسيا، وهي المولودة على أرض الثلوج في عاصمة سيبريا (كراسنو يارسك)، والزوج ابن عائلة من عوائل الأحساء عريقة الحسب والنسب “عبد الستار علي بن عبد الله بن أحمد الحمراني الموسى”، المولود بين الخضرة والماء، في مدينة الهفوف.

كيف هف قلب لنبض قلب، وأي حسن ذهب بالقلبين ليلتقيا، نصيب جمع الإثنين فرحة وظلاً؟ تلك هي حكاية رومانسية عذبة، أسر الموسى لكاتب السطور عن كل تفاصيلها، لكن البوح سيكون في موقع آخر خارج نطاق هذه الحلقات، خلاصته أن قلباً واحداً منهما هو البادي والبادي هو الإعجاب، ثم تصاعد إلى انجذاب، لم تكن الاستجابة سهلة عند الآخر، لكن سهام الحب أصابت القلب الممانع فلم يقاوم! من كان يا ترى المبادر ابن صحراء الدهناء، أم بنت ثلج سيبريا؟

وعلى ضفاف نهر(الفولغا) بموسكو، سار الحبيبان يداً بيد، يتهامسان حباً ووداً، يتبادلان سفراً لأحلامهما الوردية، يطعمان طيور الماء، تناديه “ستار”، ويناديها تلطفاً “ناتاشا”، ذات مساء صعدا فوق مركب يطوف بهما في جولة نهرية تنبعث منه أغنية رومانسية “مليون زهرة قرمزية” للمطربة العالمية فنانة الشعب السوفيتي “ٱلابوجاتشيفا”، ونتاليا تردد معها: “في وقت مضى، كان هناك رسام، كان يمتلك بيتاً صغيراً وقماشاً، لكنه أغرم بممثلة، كانت تحب الورود، يومها قرر بيع بيته، باع رسوماته، باع مأواه، وبالمال الذي تقاضاه اشترى محيطاً كاملاً من الورود، مليون، مليون، مليون زهرة قرمزية… عبر النافذة، عبر النافذة، تلوح من بعيد، المغرمون، المحبون الذين يحبون بصدق، قد يقلبون حياتهم إلى ورود من أجلك، مليون، مليون، مليون زهرة قرمزية…”.

اللون والنغم والعطر وباقات وورد حمراء هدايا الحبيبين لقلوبهما العاشقة، يسبحان طيراناً عبر السحاب البيضاء عرساناً، أجنحة حبهما تزهو بألوان طيور الجنة، ذوبان وشغف ونشوة أرواح، أجساد تتفتح ربيعاً وحسناً، كل دخل مملكة الآخر مسكناً وربيعاً مستداماً، مسجد موسكو شهد عقد القران 1980.

زوجان يعيشان في حب ووئام، يتجليان كل يوم فناً وسفراً للحلم والمعنى، رؤيتهما للعمل الفني ليست مجرد تمضية وقت وإشباع هواية، وإنما حلم حياة وحياة حلم، وكل عمل ينجزانه وراءه تحضير مسبق، بدءاً بالفكرة ومروراً بالتكوين وانتهاء بالمضمون وما بينهم التقنية والأسلوب.

يقول الموسى: “ليس الفن رسماً فحسب، ولكن هاجساً يحمل صوراً شتى من المعاني والأفكار”، وأضاف “أن تمتلك قدرة أو مهارة ما شيء مطلوب وضروري، ولكن كيف تفعل اشتغالك بثقافة التطلع إلى ما وراء العمل الفني، وتقرأه بصورة مغايرة وغير اعتيادية”.

الموسى امتلك ناصية فن “الجرافيكس” بعلم وخبرة ودراية، واكتشف تقنية غير معروفة من قبل، وهي الحفر على الكرتون بطريقة مبتكرة، جمع كل تقنيات الجرافيك الأساسية مثل اليتوغراف (الرسم على الحجر) والأفورت (الحفر على النحاس والزنك)، واللينوليوم (الرسم على الكاوشك)، وأفضى به هذا الخلط إلى تقنية جديدة لم يسبقه أحد من قبل، فكرة رائدة أهلته للحصول على درجة الماجستير، وهو مشروع التخرج في أكاديمية سوريكوف.

وكما هو معروف عن فن الجرافيسك أن يطبع الفنان نسخاً محددة لا تتعدى الخمس، مرقمة ومتسلسة، وكلها ممهورة بتوقيعه مباشرة على كل لوحة، فأعمال الموسى التي شاهدها الجمهور عبر معرضه “من صحراء الدهناء إلى ثلوج سيبريا” في محافظة القطيف هي النسخة الرابعة، أما النسخ الأولى والثانية والثالثة، فهي موجودة ضمن خزائن مقتنيات متاحف روسيا، النسخة الأولى معروضة للزوار، ونظام المتاحف أن يحتفظ بثلاث نسخ وهي الأفضل طباعياً من باقي النسخ، وقد توزعت مقتنيات الموسى على أكثر من متحف، ١٤ عملاً في متحف بوشكين، و7 أعمال في أكاديمية الفنون الجميلة بموسكو، وأخرى موزعة في متاحف المدن، كييف، مربول، دونيتسك، ومجمع اتحاد فناني عموم روسيا ومقر اتحاد فناني عموم أوكرانيا، بالإضافة إلى بولندا وألمانيا.

هذه المقتنيات لأعمال الموسى لم تأت من فراغ وسط كم هائل من الفنانين والفنانات يقدرون زمن الاتحاد السوفيتي بـ3 ملايين فنان وفنانة.

والسؤال الذي يفرض نفسه؛ كيف اقتنيت أعماله وسط هذه الأعداد الضخمة من محترفي الفن؟

إن اقتناء أعماله جاء نتيجة فرادة عوالمها غير المعروفة بين بيئاتهم، فهو قدم لهم شيئاً غير مألوف كمشهد تكويني بعناصره العربية وتحديداً الخليجية، مواضيع غير مطروقة لديهم، ولم يسمعوا عن مضامينها وتأويلاتها، بالإضافة إلى تقنيتها الفنية العالية.

الموسى فنان لماح نهل من بيئته التراثية الثرية الجديدة عليهم عبر منجز تجاوز 50 عملاً جرافيكياً، وعرضها أمام المتبحرين في التقنية والمتذوقين للفن، فقد جذبتهم فضاءاتها الجديدة، وكالوا إليها المدح والثناء وترجمت لشهادات واقتناء.

إنه فنان انحاز لبيئته وهذا سر نجاحه، لم ينظر لبيئاتهم برغم غناها وتنوعها، فطرته دلته إلى بيئته السعودية، وتحديداً الإحسائية بكل ما تزخر به من تراث خصب وعادات وتقاليد عريقة، منطلقاً للتعبير عن رؤاه ومكنوناته الوجدانية والفكرية، أعمال الموسى ليست مجرد لوحات طباعية جرافيكية فحسب بل هي رصد لمعالم البيئة الغنية في عملية تبادلية عبر حسه المرهف وأنامله المتوثبة، لاستعادة الفردوس المقود والحياة الاجتماعية الأصيلة التي شهدها بأم عينه، المليئة بالأشجان والأفراح والأوجاع والمسرات، أودعها رسماً بفخامة الأسود وتدرجاته وخطوطه المتنوعة، وأحاطها بنورانية الأبيض وهالاته الوضاءة، هنا تكمن جماليات أعمال الموسى النابضة بالحس الإنساني.


error: المحتوي محمي