الموسى ونتاليا سفر للحلم والمعنى (2)

رجع الفنان عبد الستار الموسى من بلاد هجر بعذابات الحنين واستقر في حاضرة الدمام يجر الأنين.

في البدء واجه صراعاً نفسياً بين مكتسبات الغياب وفقر موطن الأجداد، فلا متاحف للفنون يبحث عنها ولا گلريهات يغدو إليها، ولا تذاكر سيحجزها لمسرح البلشوي، أو حفلة موسيقية سيحضرها نهاية كل أسبوع، ولا تجوالاً بين روائع الفن بمتاحف الأرميتاج وبوشكين وتريبياكوف، ولا ينتظر دعوات من اتحاد فناني عموم الاتحاد السوفيتي وفروعهم المنتشرة في طول البلاد وعرضها، ولا مواعيد بين الصديقات والأصدقاء لزيارة المحترفات الفنية! فيض فن وعطش للفن دائم، والفن غذاء للروح، تلك هي كانت الأجواء.

استشعر الموسى فراغاً هائلاً، وفروقاً كبرى بين ثقافتين مختلفتين في كل شيء، أن تتعود الحواس على مطالعة الفنون من كل صنف ولون، ومعارض شتى، وحوارات ثقافية وفنية لا تهدأ، وفعاليات متلاحقة في كل ناحية، بشكل يومي وعلى مدى ثلاثة عقود، وفجأة لا يرى من كل هذا! أي قطيعة وفراغ وحرمان أشد وطأة على النفس.

أن تتقبل ما لا يتقبل يحتاج قوة بأس، وكل منقلب للأدنى مربك في البداية والقبول به مر، والمشاعر كتاب عتب، الموسى جاهد جهادين تهدئة روع شريكة عمره ونفسه الأمارة بالرجوع، بات التدرج سيد الموقف، طريقة اتبعها الموسى، فكلما ضاق ذرعاً شد الرحال إلى موطن زوجته، يسافر معها لعدة أيام من أجل رؤية أسرتها ومعارفهما، والارتواء من ينابيع الفن وقمم التشكيل، يتفقدان أماكن ضمهما البوح وذكريات العشق والسهر، وتراقص شموع الحب ورنين النخب، يأخذان جرعات لونية وخربشات للروح، يمتلئان أكسجين فن لطاقة تتجدد وأنس يتولد، ثم يعودان وسط آهات حائرة، بتداخل أصوات ملتاعة، شد وجذب بين مكانين، والموسى تتكشف روحه بين حب وطنين، وكأن قلبه يعشق حبيبين في آن، وجدانه نطق رسماً وتلويناً قبلاً وبعداً ما الحب إلا للمكان الأولِ.

رجع لوطنه بلهفة الولهان ولهفة الحيران لهفات ممزوجة بارتباك بين المعاودة والمجاهدة، حاول تكييف نفسه وأهله يوماً بعد يوم.

تقبل وضعه المستجد طوعاً وعلى مضض بكظم الغيظ، خفف من لواعجه التواقة سفراً والبقاء في حضن الوطن مساعدة لفيف من المحبين له والباحثين عنه منذ زمن، ففي يوم الأربعاء 2007/4/4م نشرت صحيفة “اليوم” مقابلة مع الفنان عبد الستار الموسى، أجراها معه الصحفي حمد اليامي في حديث مشوق وصورة شخصية تمتلئ حيوية وابتسامة، مقابلة أخبرتنا بعودة الفنان إلى أرض الوطن، قرأها كثيرون من بينهم الفنان التشكيلي عبد الرحمن السليمان الذي طار فرحاً وهو الذي كتب عنه في عام 94م معرفاً الجمهور الفني بهذا الفنان المغترب عبر جريدة “اليوم”.

السليمان لم يهدأ له بال إلا بالحصول على عنوان الفنان، وبعد بحث وانتظار استدل عليه مرحباً بمقدمه وسعى لضمه لمجلسه الأسبوعي المسماة “أربعائية السليمان”، جاء للجلسة فوجدها متنفساً لحالة التوهان، التف من حوله المتسامرون أسبوعياً على موائد الثقافة والفن – وكاتب السطور أحد الجلاس – أفرد لنا حكايات السفر والترحال، وما يقال وما لا يقال.

ولرفاق دربه حظوتهم معه بأماسي الوصال، يتناجون لزمن كان وياما كان، دوائهم الضحك والسمر والدموع واسترجاع الأيام الخوالي، جميعهم عزفوا لحن المحبة بتقبل واقعهم الجديد، الغربة بكل جمالياتها وسحرها، لها متاعبها أيضاً، وكل طائر مهما طال به السفر لابد أن يعود لمرتعه الأول، حضن الوطن.


error: المحتوي محمي