لم يكن زواجهما وليد لحظته بل سلك أعواما من الحب حتى وصل إلى حلّته الأخيرة ، هدى ليست ابنة العم فحسب وإنما كانت كل الحياة في قلب ابن عمها . كانت هدى هي الحب الذي طرق قلبه منذ الطفولة ، احتضنا الحياة معاً وسارت بهما الأيام في موج هادئ وأنوار قمرية تغنت بأجمل طفل تلاه طفل آخر . وامتدت جذورالعائلة وأزهرت ثمارا يانعة ، مرت الأعوام واتخذت الأحداث منحى آخر عندما أراد (ياسر ) الابن الأكبر لهدى السفر خارج البلاد لإكمال دراسته ولظروف الاغتراب أصرّت هدى أن يتزوج ابنها حماية له من التيارات الغربية المختلفة والمتناقضة وفعلا تم لها ما أرادت إذ نجحت في اختيار الزوجة المناسبة لياسر لقد اختارت له من أشرف البيوت وأجودها وأشرقت فاطمة في القلوب كشمس نشرت الدفء في يوم اشتد شتاؤه .
فاطمة تلك الفتاة الفاتنة أخذت من الجمال أروعه ومن العقل أكمله ، ومن الحديث أبينه. زوجة مخلصة ، امرأة معطاء، قادرة على أن تكون طالبة مجدة وزوجة ناجحة ،عاشت الأحداث السعيدة والمؤلمة مع زوجها في غربته لم يجمعهما الزواج فحسب وإنما انصهر جسدهما في بوتقة من الحب الصادق والتضحية والإصرار الذي قلّما تجده في مثل هذا الزمن . وضع ياسر يده في يديها يستمد منها كل مقومات الطاقات الخلّاقة التي لاتبرر وجود ألحان حزينة يمكن عزفها في حياتهما ، وكأن تاريخ الحب يعيد نفسه إذ أنه عندما يسرح بخياله لسنوات مضت ، وتحت الشمس ذاتها يرى ملامح الحياة السعيدة التي جمعت بين والديه .
تناثرت أنباء حياتهما كوريقات زهرة فوّاحة تتوارى خلفها كل ألوان الحياة الزاهية والمشعّة نضارة .
وكم كانت سعادة (ماما هدى ) عندما تصلها أخبار ابنها وزوجه ولكن كان مؤلمًا لها ألا ترى حفيدا تناغيه . أخذ الخوف مسكنه في قلبها لكنها لم تجرؤ على الحديث مع ابنها وخاصة عندما كانت تشعر بزنابق السعادة تعطر حياتهما في كل حين ومع تقادم عهود الأيام والسنين أرادت (ماماهدى ) أن تكسر حدة الهواجس التي تراودها
إلا أنها في كل مرة تعود بأطياف الخيبة تجرها خلفها . لقد كانت المواثيق التي جمعت بين ياسر وفاطمة أكبر من أن توصف بغلظة
أو تسيرها الماديات الجوفاء،فقد كانت علاقتهما أكبر من الخوض في موضوع الإنجاب ، وكان مجرد التلميح من (ماما هدى) بالعجز عن إنجاب طفل أمر مرفوض وكم من المرات احتدّ النقاش بينها وبين ابنها ليصلا معًا إلى طرق مسدودة .
لقد جمع ياسر زمام أمره وأمسك بيد زوجته ورحلا بعيدا عن والدته بعد أن أرسل لها كلمات تضج بالألم :
أمي الحبيبة لاتعطيني جناحين من شمع وتطلبين مني التحليق فوق الشمس المحرقة .
إن الحياة دون فاطمة حياة مليئة بالعواصف الشديدة .سوف تقتلعني من جذوري وتقذفني دون هوادة ، وكم هو مؤلم أن يحضن التراب خطواتي بعيدة عن خطواتها.
هكذا أُسدل الستار على أحداث هذه القصة المؤلمة ولكن تبقّى لنا أن ندرك أن هناك إرادة قوية فوق إرادتنا ، وأن خلف المكنونات الغيبية أمل يراود كل حزين .
قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم :
( الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا )
لكننا لانجزم بالسعادة لمن أنجب فهم ربما يعانون من أولاد يسلبون معهم الراحة أو ربما كتب الله لهم أطفالا ينتظرون الموت كل يوم .
لذلك جميل منا ترك الناس في حالهم ،أنجبوا أم لم ينجبوا ولا داعي لإخراجهم من دائرة مؤلمة إلى دائرة أشد ألما بأسئلتنا الملحّة والمحرجة.
ولنا مع الله تعالى وعودا ومواثيق وعدنا بتنفيذها ، لنرتشف كؤوس الصبر لعَل الله تعالى يحدث بعد ذلك أمرا .