كيف نشتري الوهم؟!

لم يصوب إبليس بارودةً ناحية رأسِ أبينا آدم، ولم يرمه برمحٍ أو يضربه بسيف، أو يخيفه بقبضةٍ من كفه، بل قالَ له بضع كلماتٍ ناعمة عَبَرت من صماخِ أذنيه إلى رأسه وأقنعته بنعومةٍ ورقة، دون أن تريقَ قطرةً من دمه: (يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ): (طه: ١٢٠). ناداه إبليس باسمه وقال له: يا آدم، لكَ الملكُ والدنيا التي لا تفنى إن أكلتَ من تلكَ الشجرة؛ عرضٌ مغرٍ، أنا لك من الناصحين وأنتَ صاحب القرار! ومن هنا بدأت الحربُ “الناعمة” على بني آدم.

عرفَ إبليسُ حال أبينا الأرضي المادي الذي خلقه اللهُ سبحانه في أحسنِ تقويم وأسكنه جنته ثم وعده أنه لن يجوعَ ولن يعرى ولن يظمأَ فيها ولن يضحى، ولم يمنعه إلا من أن يقربَ شجرةً واحدةً لا غير (وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ): (البقرة: ٣٥). أخبره وقال له: إن هذا الشيطان عدوٌّ لكما يريد أن يخرجكما من الجنة، وكان وهم إبليس: أنتَ يا آدم، تستطيع الحصول على كلِّ ما تتمناه من لذائذِ الحياة وهي باقيةٌ لك، صدَّق أبونا ما مناهُ إبليس فهبطَ إلى أرضِ الامتحان.

خسر آدم الحربَ الناعمة وأول ما خسر فيها لباسه (فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ): (طه: ١٢١). حربٌ استخدم فيها إبليسُ كلَّ التعابير الجميلة للتأثير في آدم باستثناء الاستخدام المباشر لقوةِ السلاح وأنزل آدمَ من بحبوحة الجنة إلى أرضِ الآلامِ دون أدنى مقاومة.

كانت الفكرةُ القاتلة في علبةِ الكلمة الناعمة أولَ سلاحٍ أخرج آدم من الجنة، ثم توالت أنواعُ الأسلحة ناعمة الملمس للتأثير على بني آدم وإخراجهم من أرضِ راحتهم. أما اليوم فاجتمعت عليهم الصورةُ المفرحة والرائحةُ الزكية، والوعودُ والآمال وكلُّ الملذات، أسلحةٌ لا تنفك تبيع ما لا يقدر البارود على بيعه! حربُ الغواية وبيع الوهم ابتدعها إبليس وعلمها لبني آدم، ولعله اليوم هو من يحتاج إلى أن يتعلمها من بني آدم فهم أجادوها واخترعوا لها طرقاً جميلة وافتتحوا لها مدارسَ تدرس فيها.

أعيى الفلاسفةَ والحكماء فهمُ كيف يستطيع الإنسان أن يعطي صفاتٍ جميلة لأفعالٍ ليس فيها جمال وكل ذلك في دنيا لا تدوم فكيف لو صدق إبليسُ في شجرةِ الخلد التي يأكل منها الإنسان ولا يموت؟

ما على من أراد تمييز الوعودِ الصادقة من الوهمِ الكاذب سوى عرضها على العقل فإن صدقها، وإلا في الغالب هي ليست مما يصدقه العقلاء! وحين يطرق بائعُ الوهم باباً لنا نسأله: وماذا لك أنتَ فيها؟ فلا أحد يعطي دون مقابل سوى الأنبياء وقلةٌ من البشر!


error: المحتوي محمي